غدير نصرالدين - خاصّ الأفضل نيوز
لا تنتهي عذابات الطفولة في لبنان. فحال أطفالنا باتت لا تختلف عن حياة اللبنانيين الذين سُلبت حقوقهم من قبل حكامهم وساستهم، وأصبحوا فريسة سهلة للفقر والعوز، خصوصًا الأطفال المُشرَّدين منهم.
نحن هنا نتحدّث عن ظاهرة أضحت منتشرة كالفطر في كل مكان. كيفما نظرت في أي مدنية، تقع عيناك على مجموعة من الصغار الذين يتوزعون على الأرصفة وفي الأسواق ويقفزون بين المارة والسيارات طلبًا للمساعدة، والأنكى من ذلك أنك لا تعرف هويتاتهم أو جنسيتاتهم أو إن كان لديهم عائلة حقيقية، أو إذا ما كانوا يحتاجون للعون فعلا؟؟؟؟
هذه المشاهد قد تكون مألوفة لدى اللبنانيين. لكن الشعور الممزوج بالغضب والحزن في آن، يداهمك، عندما يقع نظرك على طفلٍ يفترِشُ القُمامة ويتخذها مأوًى له، ويلتحف السَّماء بعدما ضاقت به الدنيا.
هنا يتبادر إلى ذهنك فورًا كم هي قاسية الحياة والظُّروف في عالمٍ "أصم" يتجاهل صرخات هؤلاء الأطفال حتَّى أضحت أصواتهم ظاهرة تؤرِق ضمير المُجتمع!
حتى إن براءة الأطفال ضاعت في زواريب التَّشرُّد والفقر، بعدما لاحقها شبح الظُّلم والاضطهاد… فعن أي طفولة وبراءة تتحدَّثون وقد سُلِبت من عالمنا منذ زمن، عندما كبُر هؤلاء الأطفال قبل أوانهم، في وطنٍ تركهم كشجرةٍ "تتساقط" أوراقها طيلة أيام السَّنة!! يُحدِّثونك عن قصصهم المليئة بالمآسي، التي لا يمكن أن يتحمَّلها الكبار، فما بالك بالصِّغار؟ ففضلات الطعام التي يبحث عنها الأطفال بين أكوام "النفايات" تحولت إلى وجبة يومية لهم، يتزاحمون فيما بينهم للحصول عليها.
مؤخَّراً انتشرت صورة لطِفل في مدينة صيدا (وقد اتَّخذ من أكوام النفايات سريراً له)، تركت آثارًا إنسانيَّة مؤلمة في نفوس كل من شاهدها! طفلٌ في حالة مُزرية يتَّخِذ القُمامة منزلاً له -منزِلاً ممزوجاً بالقهر والوجع وبيتًا من سراب أجبر الطِّفل على تحمُل الواقع المرير والتَّخلِّي عن أحلامه. سواعِد صغيرة ناعمة قد أثرت فيها قسوة الحياة و إهمال المعنيّين. و تركت عتبًا كبيرًا على هذه الجهات لعدم تداركها الوضع.
من المؤسف القول، إن هؤلاء الأطفال هم ضحايا!! نعم، إنَّهم ضحايا الإهمال، ضحايا الاستغلال الاجتماعي، ضحايا من أرسلهم إلى دروب الشقاء لكي يقتلعوا أشواك الصَّبار بأياديهم!! ولكن مهلاً، أين جمعيَّات حقوق الإنسان من كلّ ما يحصل؟ وأين برامج حماية الطُّفل؟
الجدير بالذكر، ينص قانون اليونيسيف "لحماية الأطفال من التَّشرُّد" على البند التَّالي: "كل طفل لديه الحق في أن يعيش في بيئة آمنة تضمن له الحماية من التشرد. يجب على جميع الجهات المعنيَّة توفير مسكن كافٍ وآمن للأطفال المُشَرَّدين، بغضِّ النظر عن جِنْسِهِ أَوْ دِيْنِهِ".
لكن هنا، ثمة مفارقة عجيبة غريبة، ويا لها من مُفارقة!! أو ربما هو لغزّ، لكن لا يحتاج إلى تفسير.
إنها الأجندات السياسية التي تلعب دور محامي الشيطان. تارةً تهرع منظمات وجمعيَّات حقوق الإنسان والطُّفولة لإغاثة الأطفال اللَّاجئين في لبنان وتوفير المسكن لهم، ولو حتَّى خيمة صغيرة! وتارةً أخرى تتناسى و تتجاهل عن عمد ما يحدث مع بعض الأطفال الآخرين، لا سيما المُكبَّلين بسلاسِل الفقر، في لبنان! فذاك الطِّفل بَراء من كلِّ النِّفاق الذي لطالما رافق "بعض" جمعيَّات حقوق الإنسان… فما الذي قد تعنيه الحياة لمشرَّد في الشَّارع دون مأوى؟؟
لهذه الظاهرة وجه آخر، وهو "التَّسرُّب المدرسيّ" إذ إنَّها إحدى الطُّرُق المؤدِّية إلى "تشرُّد" و "عمالة الأطفال" في العديد من الحالات. فبسبب سوء الأوضاع الاقتصاديَّة تلجأ العائلات الأكثر فقراً والتي لا تستطيع تأمين الأساسيَّات وأدنى مقوِّمات العيش ـــــ بدءًا من مكان الإقامة، والمأكل، والملبس، والدَّواء وغيرها ــــ إلى سَحب أولادها من المدارس بسبب تردّي الأوضاع المعيشية المزرية، حينها يُضطَرّ الأطفال إلى ترك مسيرتهم الدِّراسيَّة باكراً والضَّياع في دوَّامة "التَّسرُّب المدرسيّ" و الانخراط في بيئة الشَّوارِع.
حينها تبدأ العائلة بالتَّشتُّت من مبدأ "خلّي الولد يعتمد عا حالو". لينتهي به المطاف إلى مصاحبة أشخاص منحرفين، مُشتَّت بين شوارع وأزِقَّة المدينة، وحينها ينسلِخ عن عائلته و يُصبح هو في جِهة وعائلته في جهة أخرى…
لكن لا يمكننا أن نلوم الأطفال المُشرَّدين على "تشرُّدهم" بل علينا أن نوجّه أصابع اللَّوم على الأشخاص والجهات التي تجاهلت وتسبَّبت في تدهور و تحوُّل وضعهم من سيئ إلى أسوأ كلَّ يوم!! فبعد انتشار صورة الطفل النائم على أحد أكوام النفايات بمدينة صيدا، نأمل أن يوُضِع ملف الأطفال المُشرَّدين على طاولة البحث من قبل السلطات المعنية!! فمن الممكن عند سؤال ذاك الطُّفل عن أحلامه، قد يتمنَّى ببساطة أن يحصل على مأوى نظيف وطعام ليُسكت به جوع بطنه الفارغة منذ أيَّام.
فهذا الطِّفل نموذج يعكس حال العديد من الأطفال المُشرَّدين. يطمح أن يجد أدنى مقوِّمات العيش في بلدٍ تضُجُّ فيه التَّنديدات "بحقوق الحيوان" عند التّعرُّض لـ"كلبٍ مفترسٍ في الشَّارع" ولكن!!! لا توجد حقوق فعليَّة، واقعيَّة وجذريَّة للأطفال! فهذا هو الظُّلُم بعينه، والمُجحف بحقِّ أطفالنا؟ نعم، إنَّها ازدواجيَّة المعايير! تستميلهم تربية الحيوانات، غير أنه لا تهزهم صورة طفلٍ يأكل من النُّفايات! فعلاً هَزُلت!
صِغار جدّاً ينامون في الشَّوارِع، يتعرَّضون لاستغلال المافيات، بناتٌ صغيرات مُشرَّدات يتعرَّضن للاغتصاب لمُجرَّد تواجُدِهنَّ في مجتمع تملؤه الذِّئاب، في مجتمعٍ يُفضِّل إصدار بيانات عن الإنسانيَّة وحقوق الإنسان وهو في الحقيقة بعِيد كلّ البُعد عن الإنسانيَّة…
في الخِتام، ظاهِرة تشرُّد الأطفال، تبدو في بلادنا مثل "بُقعة الزَّيت" تتمدَّد وتنتشر يوماً بعد يوم! تَسرُد الشَّوارِع قصصاً تُقشعرُ لها الأبدان لما تحملهه من اضطهاد وقهر، قصص يعجزُ العقل البشريّ عن تحمُّلِها، وكأنها جاءت من دُنيا خياليَّة. قد تفوَّقت اليد اليُسرى من الميزان على اليُمنى، فالتَّفاوت بين أطفال المُجتمع واضِحٌ للأعمى! من في سنِّهم مكانهم المثالي هو المدرسة في وسط بيئة تُحّبهم، مليئة بالاهتمام والرِّعاية، لكنَّ الواقع أن جزءًا منهم يتعلَّم في مدرسة "الشوارع"، قلبه الرقيق ينتظر ابتسامة أو صدقة من عابرٍ غريب ليُكمل يومه!
لذا، من يخجل بشكل هؤلاء الأطفال المليء بالغُبار، والثياب المُتَّسِخة، عليه أن يخجل من نفسه لكونِه يمتلك ضميراً يستطيع أن ينام ليلاً بينما هنالك أطفال تحت وطأة البرد القارس أو الحرّ الشَّديد…
من المؤسف الاعتراف أننا في زمن يتزايد فيه عدد "الإنسان" بينما تتقلّص الإنسانيَّة!