د. علي دربج_خاصّ الأفضل نيوز
غنيٌ عن التعريف أن المفاوضات بين الدول تتطلب شهورًا وربما سنوات للخروج بنتيجة ترضي الأطراف المعنية. لكن في الحالة الأوكرانية، يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في عجلة من أمره لإبرام صفقة سريعة تنهي هذه الحرب بهدف تقديمها كإنجاز على مستوى السياسة الخارجية، غير آبه بمخاوف الخبراء والمراقبين الأمريكيين المخضرمين، الذين يحذرون من أن ترامب يخاطر بخطوته تلك بكارثة كبرى ستترك تداعياتها على مستقبل النظام العالمي ككل.
وتبعا لذلك، أسفرت اللقاءات المطولة للمبعوث الخاص للرئيس دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، (المطور العقاري) ستيف ويتكوف، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، عن وضع مسودة خطة سلام أحادية الجانب - عرضت على القيادات الأوكرانية - تقوم على أساس: "خذها أو اتركها"، حيث كتب ترامب الأربعاء الماضي عبر منصته الخاصة، أن "زيلينسكي يمكنه أن يحصل على السلام، أو أن يُقاتل لثلاث سنوات أخرى قبل أن يخسر البلاد بأكملها".
مضمون مسودة خطة السلام الأمريكية في أوكرانيا
خلال الأيام القليلة الماضية، نشرت صحيفتا التلغراف وأكسيوس تقارير شاملة عن المقترح الأمريكي ذي النقاط السبع، والذي لم يظهر للعلن بعد. ووفقًا لتقاريرهما، ستُقدم الولايات المتحدة اعترافًا قانونيًا بضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وهو فعليًا يُعد تسليما بالاحتلال الروسي لأجزاء من أربع مناطق أوكرانية أخرى.
أكثر من ذلك، منحت الخطة الأمريكية بوتين المزيد من الهدايا الأخرى، بما في ذلك وعدٌ بعدم انضمام أوكرانيا أبدًا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" مع إمكانية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا منذ احتلالها شبه جزيرة القرم عام 2014، مما يُبشر بفترة جديدة من التعاون الاقتصادي الأمريكي الروسي.
مكاسب أوكرانيا
حاليًا، لم تحصل أوكرانيا على أية مكاسب يُعتدّ بها، باستثناء استعادة جزء صغير من منطقة خاركيف التي تحتلها روسيا. ورغم أن مسودة الخطة تتحدث عن "ضمانات أمنية قوية" لأوكرانيا، إلا أنه لا يوجد التزام أمني أمريكي واضح بهذا الأمر. إذ يقع على عاتق أوروبا مسؤولية حماية أوكرانيا، مع أن القادة الأوروبيين أكدوا أن أي قوات حفظ سلام يرسلونها ستحتاج إلى دعم أمريكي.
ليس هذا فحسب، فالاتفاق ينص أيضًا على صفقة معادن أمريكية أوكرانية - ومن الغريب سيطرة الولايات المتحدة على محطة زابوريزهيا النووية العملاقة - كبديل لضمان أمني أمريكي فعلي. واللافت أنه لا يوجد كذلك، حتى أي التزام أمريكي بمواصلة إمداد أوكرانيا بالذخائر التي تشتد الحاجة إليها.
بالرغم من ذلك، هناك بعض الأخبار السارة لأوكرانيا في الخطة الأمريكية: فهي لا تتضمن مطالب الكرملين بنزع سلاح أوكرانيا، أو تغيير النظام في كييف، أو السيطرة الروسية الكاملة على جميع المناطق الأربع في جنوب وشرق أوكرانيا التي يدّعي بوتين ضمها لكنه لا يحتلها بالكامل. وعليه، تشير صحيفة فاينانشال تايمز إلى أن بوتين أبلغ ويتكوف أنه قد يتراجع عن مطلبه السابق بضم جميع المناطق الأربع، لكن من غير الواضح ما إذا كان بوتين سيقبل بالخطة الأمريكية. لذا، فالوضع ليس سيئًا كما كان متوقعًا، ولكنه مع ذلك مثير للقلق
الجدير بالذكر أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لم يستبعد إمكانية القبول المؤقت بالاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، باعتباره واقعًا مزعجًا ولكنه لا مفر منه. ففي العام الماضي، اعترف زيلينسكي قائلًا: "ليس لدينا ما يكفي من القوات لإعادة شبه جزيرة القرم... يجب أن نلجأ إلى الوسائل الدبلوماسية. لذا، يبدو أن خط زيلينسكي الأحمر هو رفض الاعتراف القانوني بالاحتلال الروسي."
على المقلب الآخر، أثارت بنود المقترح الأمريكي مخاوف كييف من أن تعمد روسيا إلى استغلال وقف إطلاق النار، والاستفادة من المنافع الاقتصادية غير المتوقعة بعد رفع العقوبات عنها لإعادة تسليح قواتها، وبالتالي استئناف عدوانها على أوكرانيا خلال بضع سنوات. ولهذه الغاية، يستشهد القادة الأوكران، بما فعله بوتين تحديدًا بعد اتفاقيات مينسك للسلام عامي 2014 و2015.
أمريكا والتخلي عن مبدأي حظر العدوان واستخدام القوة
في الواقع، يرى مؤيدو مسودة الخطة بأنها ببساطة تُقرّ بالواقع – أي باحتلال روسيا لنحو 19% من أراضي أوكرانيا (وهي مساحة تعادل مساحة ولاية فرجينيا) ومن غير المرجح أن تتخلى عنها موسكو في المستقبل القريب.
لكن الأهم بنظر العديد من القيادات الأمريكية المناهضة لترامب، أن الخطة تُقوّض أحد الركائز الأساسية للنظام العالمي لما بعد عام 1945، والذي كان يُعتبر أيضًا مبدأ أساسيًا في السياسة الخارجية الأمريكية لما يقرب من قرن.
ففي عام 1932، وفي أعقاب غزو اليابان لمنطقة منشوريا الصينية وفرض نظام موالي فيها، أصدر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري ل. ستيمسون مذكرة دبلوماسية أوضح فيها أن "واشنطن لن تعترف أبدًا بالعدوان الياباني، حتى لو كانت احتمالات ردعه ضئيلة".
عُرفت هذه المذكرة حينها باسم "مبدأ ستيمسون"، وأعاد تأكيدها عام 1940 وكيل وزارة الخارجية الأمريكي سومنر ويلز، بعد أن احتل الاتحاد السوفيتي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا بشكل غير قانوني. وقتها، لم تعترف الولايات المتحدة أبدًا بالضم السوفيتي حتى تحرر جمهوريات البلطيق عام 1991.
كما دافع عنه وزير خارجية ترامب في ولايته الأولى، مايك بومبيو، فيما يتعلق بشبه جزيرة القرم. حيث كتب بومبيو عام 2018: "كما فعلنا في إعلان ويلز عام 1940، تؤكد سياسة الولايات المتحدة من جديد، رفضها الاعتراف بمطالبات الكرملين بالسيادة على الأراضي التي استولى عليها بالقوة في انتهاك للقانون الدولي".
وماذا عن الموقف الأوروبي؟
يشعر حلفاء أمريكا الأوروبيون بالقلق من احتمال أن يفسر بوتين هذا التنازل على أنه دعوة لمزيد من شن أعمال العدوان على جورجيا ومولدوفا ودول البلطيق.
غير أن ما يقض مضاجع الاتحاد الأوروبي وحلفاء أمريكا الآسيويين، هو كيف ستنظر بكين إلى سلوك وسياسات ترامب تجاه الأزمة. فبرأي هؤلاء قد يحسب الرئيس الصيني شي جين بينغ أنه إذا هاجمت بكين تايوان، فإن الولايات المتحدة ستقبل الحقائق الجديدة على الأرض، وهذا يعد بدوره إشارة بالغة الخطورة: فهي تزيد من احتمالات نشوب حرب كبرى في آسيا، والأهم أنها تُهدد ديمقراطية موالية للغرب تُنتج أكثر من 90% من أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا في العالم.
في المحصّلة:
إذا حاول ترامب إجبار أوكرانيا على قبول هذه الخطة أحادية الجانب، فسيكون بذلك يكافئ العدوان ويجعل العالم مكانًا أكثر خطورة، بحسب خصوم ترامب الأمريكيين الذين أطلقوا صرخة اعتراضية على المسودة عنوانها: "لا تتخلوا عن مبدأ ستيمسون".