نبيه البرجي - خاص الأفضل نيوز
برنار ـ هنري ليفي، الفيلسوف اليهودي الفرنسي الذي غالباً ما يكتب بأصابع يهوذا، سخر من أحوالنا "هؤلاء الذين ينبشون قبور موتاهم ليعلقوهم على حبل المشنقة"، للدلالة على إقامتنا في الضفة الأخرى من التاريخ.
استشراء مروع للوباء الطائفي في العديد من مجتمعاتنا حين تكون البشرية على وشك الانتقال من الحضارة إلى ما بعد الحضارة من الزمن إلى ما بعد الزمن.
تصوروا أي دولة في لبنان، ومدى قابليتها للخروج من منطق الطائفة إلى منطق الدولة، حين تكون مشكلة المجلس البلدي لبيروت، وكانت في العهد الروماني أم الشرائع لا أم الطوائف، كيفية تأمين المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، كما لو أن القادة المسلمين يد واحدة، ولم يتفرقوا أيدي سبأ، وكما لو أن البابا فرنسيس لم يقل للقادة المسيحيين في بداية عهده: "اغسلوا حتى أقدامكم من الكراهية".
الدوران السيزيفي داخل الطائفة. يا جماعة لندن، عاصمة الأمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وهي مهد الكنيسة الأنكليكانية، وكانت لها اليد الطولى في صياغة خارطة بلداننا حتى قبل سقوط السلطنة العثمانية، اختارت عمدة لها رجلاً من أصل باكستاني، لا بل أن بريطانيا التي استعمرت الهند منذ عام 1758 وحتى عام 1947، انتخبت رئيساً للحكومة من أصل هندي. ما يعني البريطانيين الكفاءة لا الطائفة.
في بيروت، ولكي تكتمل اللوحة الفسيفسائية بتشكيلها العجيب، وحتى العجائبي، يفترض أن يكون المحافظ، أي الوصي على المجلس البلدي مسيحياً، وأن يكون رئيس المجلس مسلماً.
صورة مصغرة عن البانوراما اللبنانية، لنذكر بأن المادة 95 من الدستور، والتي تختزل المسار الفلسفي لهذا الدستور، تقضي بتشكيل هيئة وطنية عليا لإلغاء الطائفية السياسية، بغية الانتقال من الدولة ـ الدويلات إلى الدولة ـ الدولة، وبعدما كان مفكرو الغرب قد وجدوا في التنوع اللبناني، ببعده الثقافي، وببعده الديني، المثال في التفاعل الخلاق بإنتاج نوع من الكثافة الإنسانية في البنية السوسيولوجية للمجتمع اللبناني.
حتى الساعة انقضى أكثر من ثلاثة عقود على إطلاق دستور الطائف. "المادة الذهبية" لا تزال في الثلاجة، لا بل تم تناسيها بالطريقة التي تكرس عودة الزمن إلى الوراء. ليفي لاحظ أن كل ما يحلم به العرب هو العودة إلى ليالي ألف ليلة وليلة، كما لو أَن "الحلم الإسرائيلي" الذي يحاول البعض ربطه بـ"الحلم الأميركي" لم يترعرع في قاع التاريخ كما في قاع الأيديولوجيا.
لكن الإسرائيليين يفاخرون بأنهم تمكنوا من دمج الضرورة الأيديولوجية مع الضرورة التكنولوجية (ليتشكل المشهد الاستراتيجي). شلومو ساند، مؤلف "اختراع شعب إسرائيل"، أبدى تخوفه من "أن تصدأ رؤوسنا لأن إبقاء الماضي بكل أثقاله على ظهورنا، يجعلنا أقرب ما نكون إلى الأحصنة الهرمة التي تجر هذه العربة (الدولة ) إلى الجحيم".
لبنان يفترض أن يكون النموذج المضاد للنموذج الإسرائيلي، وحيث المراوحة الأبدية في ثقافة الغيتو. ساند سأل "إلى أين تقودنا تلك الحروب إذا كنا نقاتل بعكازات أميركية؟"، حتى إذا ما زاحت هذه العكازات، ولو قيد أنملة، سقطت الدولة أرضاً. "لا دولة في العالم تريد أن تكون إسبارطة القرن، بأطراف اصطناعية". لا مكان هناك إلا لليهودي. في لبنان 18 طائفة وتتداخل عضوياً بالكثير من العادات والتقاليد، دون أن ندري لماذا استنساخ اللوياجيرغا الأفغانية (المجمع الطائفي بدل المجمع القبلي). ماذا يعني ألاّ تكون هناك مناصفة في المجلس البلدي إذا ما كان المجلس يعمل على أساس وطني في مدينة هي عاصمة الوطن، لا على أساس طائفي، غالباً ما يؤدي إلى خراب كل شيء، بما في ذلك خراب الدولة. وهذا ما حصل...
للتو ينقلنا المشهد اللبناني إلى المشهد السوري، وحيث الأيدي الإسرائيلية تعمل في وضح النهار. حتى الطائرات تتدخل من أجل التفكيك، أو التفجير الطائفي لهذا البلد الذي أعطى روما 7 أباطرة. والذي يحتضن مقام محيي الدين بن عربي، وضريح الفارابي، وكذلك ضريح أبي العلاء المعري، وغيرهم من القادة التاريخيين، إذا ما عدنا إلى نزار قباني الذي قال "لبنانيون وسوريون و... يعشقنا القمر".
صديقنا المستعرب الفرنسي جيل كيبل قال "لن تقفوا على أقدامكم ما دمتم في رقصة التانغو مع الموتى". هل المطلوب الخروج من التاريخ أم الخروج من الأيديولوجيا؟". المطلوب الخروج من الاجترار العبثي للأزمنة إلى صناعة الأزمنة، حين نكون ورثة ذلك التراث الفذ الذي أسهم في ظهور "عصر الأنوار" في أوروبا، بعد تلك الأيام السوداء من الاقتتال الطائفي بين الكاثوليك والبروتستتانت (مذبحة القديس برتلمي عام 1572 التي أودت في باريس وحدها بـ 30000 شخص).
كيبل لاحظ أن ما يغذي النيران الطائفية أو القبلية، ضحالة المد الفلسفي والفكري في العالم العربي. حقاً، حين تجد في فرنسا وحدها مئات الفلاسفة والمفكرين، دون أن يكون هناك فيلسوف عربي واحد يمهد لظهور "عصر الأنوار" بنسخته العربية.
هل تستغربون إذا ما قلنا أن الجدل الطائفي حول المجلس البلدي في بيروت يعكس مدى عمق أزمتنا، أزمة الوجود وأزمة البقاء. من أطرف ما قرأنا لكاتب يمني أن امرؤ القيس الذي وقف عند الأطلال وبكى، يدعونا من العالم الآخر إلى عدم الوقوف على الأطلال، وإلى عدم البكاء، ليذكرنا بقول يختزل فلسفة ابن رشد بأن نستخدم العقل في صناعة الحياة لا في تدمير الحياة.
دعوة (متأخرة ؟) إلى أن نخلع العفن الطائفي من رؤوسنا...