إلياس مخايل المرّ- خاصّ الأفضل نيوز
في التاسع من أيار من كل عام، تقف روسيا على أعتاب ذاكرتها العميقة، وتُحيي ما يُعرف بـ”يوم النصر” على النازية في الحرب العالمية الثانية. هذا اليوم، الذي يمثل الذروة الرمزية لانتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب الأكثر دموية في تاريخ البشرية، تحوّل في السنوات الأخيرة من مناسبة وطنية داخلية إلى منصة عالمية لإظهار القوة، والتأكيد على موقع روسيا في النظام الدولي المعاصر.
يوم النصر لم يعد فقط يوماً للوفاء لتضحيات الجيش الأحمر في مواجهة النازية، بل أصبح حدثاً سياسياً واستراتيجياً بامتياز، تستعرض فيه موسكو عضلاتها العسكرية، وتبعث برسائل إلى خصومها وحلفائها على حدّ سواء، في ظل نظام دولي يشهد تراجعاً في الهيمنة الأميركية وصعوداً متسارعاً للقوى الكبرى البديلة.
الذاكرة كمصدر للشرعية
يستند الخطاب السياسي الروسي إلى الحرب الوطنية العظمى باعتبارها لحظة التكوين المعاصر للأمة؛ فالتضحيات الجسيمة التي قدّمها الاتحاد السوفيتي – والتي تجاوزت 27 مليون قتيل – تشكّل العمود الفقري لهوية روسيا ما بعد الحرب، وتمثل سنداً أخلاقياً وسياسياً لشرعية النظام الروسي الحالي.
في هذا الإطار، لا يُعدّ يوم النصر مجرد استذكار لماضٍ مجيد، بل أداة لتعزيز الشعور القومي، وتبرير السياسات الدفاعية والهجومية التي تتخذها موسكو باسم حماية السيادة، والتصدي للنازية الجديدة، كما تصف خصومها في أوكرانيا وأوروبا الشرقية.
العروض العسكرية… والسياسة المضمرة
العرض العسكري الذي يُقام سنوياً في الساحة الحمراء، أمام جدران الكرملين، يتجاوز حدود الاستعراض الرمزي ؛ فالمعدات التي تُعرض، والطائرات التي تحلّق، والقادة الذين يجلسون في الصفوف الأمامية، كلّ ذلك عناصر تخدم هدفاً واحداً: التأكيد على أن روسيا قوة لا تزال تمتلك القدرة على الدفاع والهجوم، رغم كل العقوبات والضغوط.
العام 2025 جاء الاحتفال في سياق بالغ الحساسية: الحرب في أوكرانيا ما زالت مستمرة، العلاقات مع الغرب تزداد تأزماً، وحلف الناتو يتوسع على حدود روسيا. وفي المقابل، تسعى موسكو إلى توسيع تحالفاتها في آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية، وضمن تكتلات كـ”بريكس” ومنظمة شنغهاي للتعاون.
في خطابه بالمناسبة، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “روسيا ستبقى الحصن الأخير في وجه الفاشية الجديدة، ونحن لا نخاف أحداً ولن نتراجع أمام أحد.” هذا الخطاب، المحمّل برسائل مباشرة إلى الغرب، يترجم العقيدة الروسية القائمة على “السيادة الكاملة وعدم الخضوع لأي نظام دولي تهيمن عليه واشنطن.”
من الدفاع إلى المبادرة
ما بعد الحرب الباردة، حاولت روسيا الانخراط في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، لكن سرعان ما تبين لها – كما تقول الرواية الروسية الرسمية – أن هذا النظام لا يعترف بمصالحها ولا يضمن أمنها. ومع وصول بوتين إلى الحكم عام 2000، بدأ التحول من دولة منهكة تبحث عن استقرار، إلى قوة تعيد تموضعها في الساحة الدولية.
في عام 2008، شنّت موسكو عملية عسكرية في جورجيا. ثم في 2014، ضمّت شبه جزيرة القرم، وأخيراً في 2022، أطلقت ما سمّته “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، رداً على ما تعتبره توسعاً عدوانياً لحلف شمال الأطلسي. وفي كل مرة، ترافقت هذه العمليات مع استحضار صريح لذاكرة الحرب العالمية الثانية، ومعادلة “نحن نكرر ما فعله أجدادنا: نقاتل النازيين الجدد”.
دور روسيا في النظام الدولي الجديد
إحياء يوم النصر في ظل هذا السياق الحافل بالأزمات يُبرز كيف تستثمر موسكو إرثها التاريخي لتعزيز مكانتها العالمية. روسيا اليوم لا تكتفي بردّ الفعل، بل تسعى لبناء محور جديد يقوم على الشراكة مع الصين، والهند، وإيران، وعدد من دول الجنوب العالمي.
من خلال هذه العلاقات، تحاول موسكو كسر الحصار الاقتصادي المفروض عليها، والحد من هيمنة الدولار الأميركي، وتوسيع التبادل التجاري والتقني عبر أنظمة بديلة.
وعلى المسرح الدولي، باتت روسيا فاعلاً في عدد من الملفات الحساسة:
• في سوريا، تسيطر على أجواء البلاد وتدير توازنات دقيقة بين النظام، وإيران، وتركيا.
• في أفريقيا، تقدم الدعم الأمني والعسكري لحكومات تُعارض النفوذ الفرنسي والغربي.
• في أميركا اللاتينية، تعزز علاقاتها مع فنزويلا وكوبا وبوليفيا في مواجهة واشنطن.
الخاتمة: يوم النصر… واستراتيجية النهوض
يُشكّل 9 أيار مناسبة تذكيرية بأن روسيا لم تغادر موقعها كقوة عظمى، رغم محاولات العزل والتطويق. العرض العسكري، والخطاب السياسي، والرسائل الدبلوماسية، كلها أدوات توظفها موسكو لتقول للعالم: “لقد انتصرنا في 1945، وسنصمد في 2025.”
إنه يوم النصر، نعم، لكنه أيضاً يوم الواقعية الاستراتيجية الروسية: التذكير بالمجد، وتسويقه كسلاح سياسي، في عالم ينقلب على ذاته، ويتجه نحو صراع مفتوح على السلطة، والموارد، والنفوذ