نبيه البرجي - خاص الأفضل نيوز
الفيلسوفة اليهودية الأميركية جوديث باتلر تمنت على الشيطان أن يجد له مكاناً يليق به في جهنم. لا أحد كان يتصور أن رئيساً أميركياً يقوم بجولة في الشرق الأوسط دون أن تكون إسرائيل محطته المقدسة. توماس فريدمان كتب في "النيويورك تايمز": "هذا الرجل ليس حليفاً لنا، بل إنه يهدد مصالحنا". المتحدثة باسم وزارة الخارجية تامي بروس قالت، في حديث إلى شبكة "نيوز نايشن": "العالم يعي بما يحدث في غزة وأوكرانيا. هذه ليست طريقة حياة لأي إنسان. لا حل يمكن أن يأتي من الحروب أو من المجازر الجماعية". هل فاجأكم هذا الكلام الأميركي؟!
كل ما يحدث على الأرض يشي بأننا أمام رجل دون أفق، دولة دون أفق. بنيامين نتنياهو لا يريد، ولا يستطيع، الخروج من دوامة الدم، وهو الخروج من السلطة. الأميركيون، وكذلك الأوروبيون، كانوا على يقين بأنه كان جاهزاً لتوجيه الصواريخ النووية إلى إيران، ووضع الشرق الأوسط أمام الواقع الجديد (الواقع التوراتي)، مع أن الدراسات التي تصدر عن بعض معاهد البحث في الدولة العبرية تتحدث عن خسارة آيات الله أوراقهم الجيوسياسية في المنطقة، ولم يعودوا يشكلون أي خطر.
على نحو لافت، تبرز بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية مدى البراغماتية التي يظهرها الإيرانيون في الجولات التفاوضية مع الأميركيين، وكذلك الانفتاح الإيراني الواسع النطاق على المملكة العربية السعودية، ليس فقط لإرساء مشهدية جديدة على ضفتي الخليج، وإنما لإرساء مشهدية جديدة في الشرق الأوسط.
المثير أن الصحافي الأميركي الشهير سيمور هيرش، الذي كشف في كتابه "خيار شمشون" عام 1991 حقائق مذهلة عن الترسانة النووية الإسرائيلية، حذر من أن تلك الرؤوس، بالحمولة التوراتية التي تنبعث منها النيران، لم يُصنعوا القنبلة لكي تصدأ في المستودعات، وإنما لاستعمالها، كمدخل إلهي لاستقبال الماشيح المخلّص. غريب هذا المخلّص الذي لا يظهر إلا بين الجثث المحترقة، والأرواح المحترقة.
حاييم وايزمان، أول رئيس للدولة في إسرائيل، وهو عالم كيميائي، فكر، حتى قبل إعلان قيام الدولة في 15 أيار 1948، بأن الوسادة الأميركية (والبريطانية والفرنسية) لا تكفي لحماية الدولة اليهودية، لا بل إن النزعة النازية قد تظهر في هذه الدول مثلما ظهرت في ألمانيا. من هنا ضرورة السعي الحثيث نحو الوسادة النووية. التقى بروبرت أوبنهايمر، أبو القنبلة النووية الأميركية، للمساعدة في بناء مفاعل ديمونا، باعتباره الهيكل الثالث. وكان أن استجلب مجموعة من العلماء اليهود في الفيزياء النووية، ليس فقط لبناء المفاعل، وإنما أيضاً لصناعة القنبلة التي اقترح وزير التراث عميحاي الياهو، وعلى ذلك النحو الهمجي (دون أن يرف جفن في الغرب)، إلقاءها على غزة كما لو أن تلك الكميات الهائلة من القنابل الفتاكة لا تكفي. لم يعد الهدف ترحيل الفلسطينيين وإنما إبادتهم.
بالرغم من ذلك، لا يستطيع الإسرائيليون تحمّل أي "ظل نووي" في المنطقة. فوجئوا بالقنبلة الباكستانية، واعتبروا أنها القنبلة الإسلامية التي صُنعت لمواجهة القنبلة اليهودية. وفي حزيران 1981، دمروا المجمع النووي العراقي الذي كان قيد الإنشاء، بمؤازرة فنية فرنسية، قرب بغداد.
الآن، وبكل شراسة، يعلنون الاستنفار العام، بل وحتى الحرب، ضد بناء مفاعل سعودي للأغراض المدنية. في نظرهم، إن باستطاعة المملكة، بإمكاناتها المؤثرة، أن تتجه نحو العتبة النووية. الخشية ليست فقط من المنشآت النووية، وإنما أيضاً من الأجيال النووية، بعدما كان المستشرق الأميركي برنارد لويس قد رأى، بفظاظته المعهودة، في رؤوس العرب، الرؤوس الملأى بالقش أو بالرمال.
في العقل التوراتي، يُفترض بالعرب البقاء، ليس فقط ما قبل الزمن النووي، وإنما ما قبل الزمن نفسه. وكان المفكر الأميركي ناعوم تشومسكي قد حذّر من "أصحاب تلك الأدمغة الصدئة الذين يحكمون إسرائيل"، هؤلاء الذين يعتبرون أنهم، بتأثيرهم على العديد من صانعي القرار في الغرب، يحولون دون حصول أي تفاعلات زلزالية في التاريخ، لا سيما تاريخ الشرق الأوسط. ذكّرهم بأن العرب كانوا رواداً في الفلسفة، وفي العلوم، حين كان اليهود كتبة، أو محاسبين، في دواوين الخلفاء.
لا نستبعد أبداً أن يفكر الإسرائيليون، في لحظة ما، بتدمير المفاعل السعودي، وهو قيد الإنشاء. كل خطوة عربية إلى الأمام تقابلها خطوة إسرائيلية إلى الوراء، دون أن يأخذوا في الاعتبار أن الظروف لا بد أن تتغير. هذه هي جدلية الأزمنة. ثمة فريق داخل الإدارة الأميركية يرى أن إسرائيل ذهبت إلى أكثر مما ينبغي في التعاطي مع الحالة الفلسطينية، وحتى مع الحالة الشرق أوسطية، كما لو أن أميركا الدمية الإسرائيلية، وليست إسرائيل الدمية الأميركية.
منذ البداية، طلب مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق، من صديقه السفير السابق لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، والذي أعدّ وإياه فيلماً بعنوان "طريق 60: الطريق التوراتي السريع"، أن ينصح أصدقاءه في الائتلاف بأن رجل البيت الأبيض الآن غير الرجل السابق. لا أحد يستطيع أن يتسلق كتفي دونالد ترامب سوى ابنته إيفانكا، المنهمكة الآن في مشاريعها الشخصية.
الآن، آن الأوان لنأخذ بالمأثورة الصينية: "انتظر جثة عدوك على ضفة النهر". هنا نهر الدم...