د. علي ناصر - خاصّ الأفضل نيوز
تشكل المساحة الممتدة من البحر الأبيض المتوسط حتى الحدود الإيرانية، ومن البحر الأسود حتى شواطئ بحر العرب، ما يعرف بالشرق الأوسط وفق الأفكار الجيو- سياسية. وتختزن هذه المنطقة الحضارات العالمية وفيها نزلت جميع الأديان السماوية، وتحتوي على مخزون نفطي هائل، إضافة إلى الموقع الجغرافي الذي يمر عبره أكثر من ثلث التجارة العالمية البحرية.
لم يتوقف الصراع الدولي من أجل السيطرة والتحكم بالمنطقة وكان دائماً توازن القوى الدولي يفرض اتجاهاته على المنطقة رغم المقاومات التي كانت تواجهه وتعرقل عملية استقراره بفعل طبيعة المنطقة، ولم تتمكن أي قوة أو إمبراطورية منذ ما قبل الميلاد وحتى الآن أن تدخل إلى المنطقة من دون مواجهة مقاومة، لذلك تعامل أبناء المنطقة مع تأسيس "دولة إسرائيل" إلى أنها محاولة غربية للسيطرة على المنطقة وتطويعها، وأنها أداة استيطانية-استعمارية يجب مقاومتها.
النظام الجديد للشرق الأوسط حسب الرؤية الأمريكية
لم تتمكن جميع التسويات التي طرحت منذ عام 1948 من قبول إسرائيل كدولة في المنطقة، ولم تسطع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية من تشريع هذا الوجود، وقد لجأت من أجل ذلك إلى مجموعة من الخيارات الدبلوماسية والسياسية والعسكرية التي فشلت جميعها حتى الآن. وفي السياق نفسه برز مؤخراً استخدام القوة المفرطة في تحقيق ما تعتبره الولايات المتحدة الاستراتيجية الفاعلة في تحقيق استقرار الشرق الأوسط عبر ضرب القوى الكبرى التي تمثل التوازنات الإقليمية في المنطقة.
تعتمد الرؤية الأمريكية الجديدة في زمن الرئيس "دونالد ترامب" على تسوية الصراعات والنزاعات القائمة في منطقة الشرق الأوسط في الاعتماد على نهجين متوازيين، النهج الأول هو استخدام القوة المفرطة في إخضاع الدول التي ترفض شطب القضية الفلسطينية، وترفض في نفس الوقت تجريدها من عامل القوة الذي يحفظ وجودها كنظم وكيانات سياسية متجذرة في المنطقة، وهذا الشرط تمارسه الولايات المتحدة اتجاه مصر، وينطبق على إيران حالياً، وقد يشمل تركيا في المستقبل ودول مثل باكستان.
والنهج الثاني، تعميم ثقافة الترفيه والازدهار الاقتصادي عبر عقد صفقات تجارية ضخمة مع دول الخليج العربي وإبراز هذه الحالة بصفتها نموذجاً إنسانياً طبيعياً من دون إسقاط العامل الأمني عبر تأمين الحماية لهذه الدول والتذكير بذلك بشكل مستمر. وتقدم إدارة الرئيس "ترامب" هذا النموذج لدول المشرق العربي- سوريا ولبنان من أجل الانخراط في عملية التسوية مع التلويح المستمر باستخدام القوة والأمن من أجل فرض الحلول السياسية. واستخدام القوة لتحقيق الشروط السياسية يتوافق مع الفكر الصهيوني الحاكم الآن في إسرائيل ويتوافق مع عقيدة أمريكية يتبناها جزء من الإدارة الأمريكية الحالية. بينما نهج الازدهار والترفيه يتبناه جزء من المجتمعات الأوروبية التي تحاول البناء عليه من أجل خلق تسوية لمختلف القضايا، ويتبناه أيضاً جزء قليل من الإدارة الأمريكية الحالية، ولكن يتبناه وحسب استطلاعات الرأي الاتجاه الأكبر من الشعب الأمريكي.
القضية الفلسطينية
تتمثل المعضلة الرئيسية بأن جميع المحاولات التي تعمل عليها الإدارة الأمريكية الحالية مجربة، ولا يوجد ابتكار، من أجل خلق تسوية للقضية الفلسطينية التي هي جوهر الصراع العربي-الإسرائيلي. لم تتمكن الولايات المتحدة من خلق تسوية لهذه القضية منذ أكثر من 80 عاماً بسبب انحيازها وتمسكها بالأفكار الصهيونية للتسوية، والسبب الآخر الجوهري أن إسرائيل تمثل أحد أهم وأخطر "البوارج" الأمريكية في المنطقة، وتستطيع تهديد كل دول المنطقة التي لا تخضع للنفوذ والهيمنة الأمريكية. تعتبر القضية الفلسطينية قضية عربية وإنسانية، القفز من فوقها سيؤدي إلى نشر الفوضى وإعادة تغيير الوقائع الديموغرافية في معظم دول المنطقة وسيكون أخطرها على لبنان والأردن.
واستخدام القوة المفرطة اتجاه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لم تحقق النتائج السياسية والأهداف النهائية من تلك الحرب بحيث أن المقاومة ما زالت مستمرة وتخلق حالة تضامن هائلة عربية ودولية مع الشعب الفلسطيني ستكون نتائجها السياسية مؤثرة بعد انتهاء الحرب.
وتندرج المحاولة الأمريكية الحالية في إطار تصفية القضية الفلسطينية، وليس تسوية القضية، وإنهاء وجود الفلسطينيين كشعب وهو ما خلق وسيخلق قوة فلسطينية وعربية في مواجهة هذا المشروع.
القوة الإيرانية
حددت إسرائيل والولايات المتحدة أهداف الحرب على إيران بتصفية المشروع النووي الإيراني، ونزع القدرات الصاروخية الإيرانية، والهدف المخفي كان إسقاط النظام في إيران. واستخدمت الولايات المتحدة وإسرائيل القوة المفرطة من أجل تحقيق الأهداف السياسية. بعد انتهاء الحرب لم يتم تحقيق الأهداف السياسية، والادعاءات الأمريكية والإسرائيلية اعترضت عليها مجموعات داخل الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أن إيران علقت تعاونها مع "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" وبالتالي حجبت جميع المعلومات عن المجتمع الدولي فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. يفترض تغيير الشرق الأوسط إنهاء القوة الإيرانية وهو ما لم يتحقق في الحرب الأخيرة. أكثر من ذلك كانت نتائج هذه الحرب مزيدًا من الحذر والخوف شمل تركيا وباكستان ودول الخليج العربي ومصر بشكل مباشر، كان مصدر القلق ينبع من طبيعة السياسة الأمريكية اتجاه المنطقة، لذلك اندفعت الإدارة الأمريكية إلى إنهاء الحرب بسبب تداعياتها المحتملة على النظم القائمة في المنطقة. أكدت الحرب الأخيرة على إيران أن التوازنات القائمة في المنطقة لا يمكن تعديلها في الوقت الحاضر والنهج الأمريكي للتعامل مع قوى المنطقة سيصطدم بقوة الجغرافيا والتاريخ والحضارة، وأن شعوب المنطقة لن تتخلى عن مصادر قوتها بسهولة.
استنتاج
تمثل الدول العظمى حالة أخلاقية ومجموعة قيم تُبرزها على صعيد المجتمع الدولي، وتظهر تلك القيم مباشرة بسلوك قادتها، إن الخدعة التي مارسها الرئيس الأمريكي قبل القصف الإسرائيلي على إيران أعطت إشارات سلبية وعدم ثقة بالوعود التي يمكن أن تقدمها الإدارة الأمريكية الحالية. تمثل تركيا قوة رئيسية في المنطقة ولا يتناسب دورها وقوتها مع بقاء إسرائيل قوة وحيدة في الشرق الأوسط، وهذا أيضاً لا يتطابق مع الواقع العربي. حتى الآن ما زال الشرق الأوسط يتمثل بثلاث قوى رئيسية "إسرائيل" وتركيا وإيران، ولم تتمكن الحرب الأخيرة على إيران من تعديل في موازين القوى، والشرق الأوسط التي تروج له الولايات المتحدة و"إسرائيل" لم يتحقق بعد. تفيد التجارب التاريخية وسياق الحروب التي حصلت في المنطقة أن شعوب المنطقة قادرة على المقاومة بوجوه وأشكال متنوعة.