علي دربج - خاص الأفضل نيوز
لم تَحْظَ أيُّ منطقةٍ في العالم باهتمامِ الراحلِ البابا فرنسيس، كما فَعَلَ مع القارَّةِ السمراء، التي تصدَّرَت أولويَّاتِه. ففي العام 2019، وفي لَفْتةٍ مؤثِّرة، رَكَعَ الحبرُ الأعظم بعد خَلْوَةٍ روحيَّةٍ غيرِ مسبوقةٍ في الفاتيكان، ليُقَبِّلَ أقدامَ زعماءِ جنوبِ السودانِ المتحاربينَ سابقًا، وحَثَّهُم على عدمِ العودةِ إلى الحربِ الأهليَّة، والتخلِّي عن الحروب.
ولم يقتصر الأمرُ على ذلك، إذ حَثَّ البابا المسيحيِّين والمسلمين على المصالحةِ في جمهوريَّةِ أفريقيا الوسطى، وأدانَ استغلالَ المواردِ الطبيعيَّةِ في جمهوريَّةِ الكونغو الديمقراطيَّة. كما عيَّنَ قادةً للكنيسةِ الأفريقيَّةِ ليساعدوا في اختيارِ خَلَفِه، ويَرْسُموا مستقبلَ الكنيسة.
أفريقيا... مستقبل الكنيسة الكاثوليكية
خلالَ ولايةِ البابا فرنسيس التي استمرَّت 12 عامًا، قفزَ عددُ الكاثوليك في أفريقيا من نحو 176 مليونًا إلى 281 مليونًا( وفقًا لإحصاءاتِ الفاتيكان) رغمَ انخفاضِ الحضورِ الكنسي في مناطقَ أخرى من العالم. واليوم، يعيشُ واحدٌ من كلِّ خمسةِ كاثوليك في العالم في القارَّةِ الأفريقيَّة.
وتعقيبًا على ذلك، قال ستيفن أنايدو، كاهنُ رعيَّةٍ في شمالِ غربِ نيجيريا: "أفريقيا الآن أملُ الكنيسة – بذرةُ الإيمانِ تنبتُ هنا أكثرَ بكثيرٍ ممَّا تنبتُ في العالمِ الغربيّ". وأضاف: "كان لدينا مبشِّرون غربيُّون بِيضٌ يأتون إلى هنا ليعلِّمونا الدين. أمَّا الآن... فسيَنشُرُ الأفارقةُ الإنجيلَ في العالم".
أكثرُ من ذلك، تحتلُّ الكونغو المرتبةَ الأولى عالميًّا من حيث عددِ الكاثوليكِ المُعَمَّدين، الذين يُقدَّرون بنحو 55 مليونًا، تليها نيجيريا بـ35 مليونًا (بحسب أرقامِ الكرسي الرسولي). وتقولُ الفاتيكان إن أفريقيا وآسيا هما المنطقتانِ الوحيدتانِ في العالم اللّتانِ يزدادُ فيهما عددُ الكهنة.
من هنا، قال جونستون كبيلاكَا، كاتبٌ كاثوليكيٌّ ملتزمٌ يبلغُ من العمر 25 عامًا من مدينةِ جوس النيجيريَّة، إنّ الشبابَ الأفارقة "يُشكِّلون بالفعلِ مستقبلَ الكنيسةِ بنشاطٍ"، وأحيانًا بطرقٍ غيرِ متوقَّعة. وأضاف أن مئاتِ النيجيريِّين يجتمعونَ يوميًّا على منصَّة X للصلاةِ معًا وتلاوةِ المسبحةِ الورديَّة.
وأوضح أنّ الكاثوليكيَّة في نيجيريا تتميَّزُ بـ"شِدَّتِها" — إذ أظهرتْ دراسةٌ لجامعة جورجتاون أنّ 94٪ من الكاثوليك في البلاد يحضرونَ القدَّاس مرَّةً واحدةً على الأقل في الأسبوع.
وتابع كبيلاكَا: "هذا هو الاتجاهُ الذي تسلكُه الكنيسة. لم تَعُد علاقةً أُحاديَّةً تتلقَّى فيها أفريقيا، بل علاقةً متبادَلةً تُسهِم فيها أفريقيا روحيًّا وفكريًّا ونبويًّا"
فرنسيس وإعلاء شأن رجال الدين الأفارقة في الكرسي الرسولي
بدوره قال أندرياس ماك مابيور، المحلِّل السياسيّ الجنوب سوداني، الذي يقودُ جوقةَ الأبرشيَّةِ في جوبا، إن البابا فرنسيس، وبغضِّ النظرِ عن اختلافاتِه العقائديَّة مع الكنيسةِ الأفريقيَّة، كان محبوبًا في جميعِ أنحاءِ القارّة، لأنَّه أظهرَ اهتمامًا حقيقيًّا بالمحرومين والمنسيِّين.
والجدير بالذِّكر أنّ البابا فرنسيس زارَ افريقيا خمسَ مرَّاتٍ خلالَ تولِّيه أعلى منصبٍ دينيٍّ في الفاتيكان، وقادَ حشودًا ضخمةً ومُتعبِّدةً في الصلاة. وتحدَّثَ أيضًا بصراحةٍ عن إرثِ الاستعمارِ الضار، وانتقدَ النُّخَبَ التي تحتكرُ الثروات، ودافعَ عن المهاجرين، وشاركَ في بعضٍ من أكثرِ النزاعاتِ تعقيدًا في أفريقيا.
حتى في أسابيعهِ الأخيرة، كشف مابيور أنّ البابا فرنسيس كان يكتبُ إلى قادةِ جنوبِ السودان، داعيًا إيَّاهم إلى خفضِ التوتُّرات التي أعادتْ إثارةَ المخاوفِ من العودةِ إلى حربٍ شاملة.
وقال مابيور، الذي قابلَ فرنسيس عندما زار البلاد في 2023: "كُنَّا نعلم أنّ جنوب السودان في قلبِه. لقد جعلنا نشعرُ وكأنَّنا جزءٌ من عائلةِ الله".
الكرادلة الأفارقة والكرسي الرسولي
في انعكاسٍ للتحوُّلاتِ الديموغرافيَّةِ للكنيسة، رشَّح البابا فرنسيس مجموعةً متنوِّعةً تاريخيًّا من الكرادلة – 18 (افريقيًا) من أصل 135 مؤهَّلين للتصويتِ في المجمعِ القادمِ– ما أثارَ التكهناتِ بإمكانيَّةِ أنْ يكونَ هناك بابا أفريقيٌّ لأوَّل مرَّةٍ في التاريخِ الحديث.
وبغضِّ النظرِ عن الشخصِ الذي سيتمُّ اختيارُهُ لِيَجلسَ على الكرسيِّ الرسوليِّ خَلَفًا للبابا فرنسيس، فإنّ القارةالافريقية، ستكونُ محوريَّةً في تحديدِ مسارِ الإيمان. فالكنيسةُ هناك تميلُ إلى أنْ تكونَ أكثرَ تحفُّظًا بكثيرٍ من نظيراتها في أجزاءٍ أخرى من العالم، خصوصًا في قضايا المثليَّة.
ولهذا، اصطدمَ قادةٌ من القارّةِ علنًا مع البابا فرنسيس في السنواتِ الأخيرة، لا سيما بعدَ إصدارِه توجيهاتٍ أواخر عام 2023 تسمحُ للكهنةِ بمنحِ البركاتِ للأزواجِ من نفسِ الجنس.
وبناء على ذلك، أصدر قادةٌ كاثوليكٌ إقليميُّون رسالةً عامةً تفيدُ بأنَّه لن تُمنَحَ البركاتُ للأزواجِ من نفسِ الجنس في كنائسِ أفريقيا، لأنَّ مثلَ هذهِ الزيجاتِ "تتعارضُ مع إرادةِ الله" و"مُضطربةٌ بطبيعتها".
أبرز الكرادلة الأفارقة المُرشَّحين لخلافة البابا
منذ اللحظةِ الأولى للإعلانِ عن وفاةِ البابا فرنسيس، بدأتْ تتسرَّبُ إلى وسائلِ الإعلامِ أسماءُ الكرادلةِ المُرشَّحينَ لخلافتِه. ومن أبرزِهم:
• الكاردينال فريدولين أمبونغو بيسونغو، رئيسُ أساقفةِ كينشاسا، عاصمةِ جمهوريّةِ الكونغو الديمقراطيّة، والذي تزَعَّمَ الرسالةَ المذكورةَ أعلاه ضدّ بركاتِ المثليِّين.
• الكاردينال الغاني بيتر توركسون، وهو مستشارٌ مُقرَّبٌ من البابا فرنسيس، خصوصًا في قضايا المناخ، ويُنظرُ إليه على أنَّهُ أكثرُ تقدُّميَّة.
• الكاردينال روبرت ساره، المحافظُ المُتشدِّد من غينيا، والذي دعا الكنيسةَ إلى التمسُّكِ بتعاليمها التقليديَّة.
فرانسيس والفقراء... وكرامة الإنسان
وعندما زار فرنسيس كينيا عام 2015، كان يرغبُ في الوصولِ إلى قلبِ أحدِ أكثرِ الأحياءِ فقرًا في نيروبي، ووفقًا للأخت ماري كيليين (نقلًا عن صحيفة واشنطن بوست)، فقد شعرَ بخيبةِ أملٍ عندما حالتْ اللوجستيات دونَ ذلك واضطرَّ إلى الذهابِ إلى منطقةٍ أقلَّ مركزيَّة.
وعندما رأى أنَّ أعضاءَ البرلمان قد جلسوا في الأماكنِ المخصَّصةِ للسُّكَّانِ المحليِّين، ردَّ بغضب، وقال: "جئتُ لألتقي بالفقراء، وغدًا أنتم أعضاءُ البرلمان سيكونُ لكم يومُكم". وأضافت الأخت ماري: "لقد جعلَنا نشعرُ أنَّنا مهمُّون وموجودون".
في المحصّلة:
في زمنٍ أَشَاحَ فيه كثيرونَ بوجوهِهم عن الإبادةِ الجماعيَّةِ في غزَّة، رفعَ البابا فرنسيس صوتَه عاليًا من أجلِ العدالةِ الإنسانيَّة، رافضًا للظُّلم، ومناصرًا للمظلومين.