الياس المر - الأفضل نيوز
رسائل سياسية تتجاوز الاقتصاد،
صحيح أن الزيارة أُحيطت بإعلانات عن صفقات ضخمة إلاّ أن التركيز على الاقتصاد
يخفي ما هو أعمق:
ترامب عاد إلى الخليج ليثبت أن الولايات المتحدة، تحت قيادته، ما تزال القوة الأكثر تأثيراً في المنطقة، وقادرة على ضبط مسارات السياسة الخليجية ضمن رؤيتها الكبرى. وهو بذلك يعيد إحياء عقيدته المعروفة بـ"التحالف عبر المال والقوة"، أي أن الحماية الأميركية تمر عبر صفقات وتسويات كبرى، وأن التحالفات متعددة الأقطاب لدول الخليج، لا تمنع أن أميركا لا زالت القوّة العالمية الكبرى، الأكثر تأثيراً وفاعلية في دول المنطقة، في مقابل تمدد روسيا والصين.
تسريع قطار التطبيع: نحو ما بعد اتفاقيات إبراهيم
من بين أبرز الرسائل التي حملتها الزيارة، الدفع الجاد نحو انضمام السعودية رسمياً إلى اتفاقيات إبراهيم. ترامب الذي كان عرّاب هذه الاتفاقيات خلال ولايته الأولى، يعتبر أن تطبيع السعودية هو "الجائزة الكبرى" التي ستُدخل الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد القضية الفلسطينية، وتكرّس محوراً خليجياً–إسرائيلياً ضد إيران. وهنا، لا بد من التوقف عند الدلالة الرمزية لتزامن الزيارة مع تصعيد إسرائيلي دموي في غزة وجنوب لبنان. فبدلاً من أن تؤدي الحرب إلى تقويض مسار التطبيع، كما كان يُفترض منطقياً، تحاول واشنطن توظيفها لترهيب دول الخليج وتحفيزها على اللحاق بركب التحالف الأمني مع إسرائيل بحجة الخطر الإيراني أو "الفراغ الروسي–الصيني".
إعادة تأهيل النظام السوري: صفقة خفية؟
في مفاجأة لم تكن متوقعة، أعلن ترامب خلال زيارته رفع العقوبات عن النظام السوري بعد لقائه بالرئيس السوري أحمد الشراع. هذا التحول يطرح علامات استفهام كبرى: هل نحن أمام بداية إعادة تأهيل النظام السوري مقابل تنازلات معينة، منها ضبط العلاقات مع تركيا، وفك الخصار لعدم الإضطرار للتقرب من إيران مجدداً، أو حتى الانخراط في مسار إقليمي جديد بقيادة أميركية–خليجية؟ من هذا المنظور، يبدو أن واشنطن تحت ترامب تحاول تدشين مرحلة جديدة من العلاقة مع الإسلام السياسي من خلال وضعه تحت رعاية المنظومة العربية "المعتدلة"، عبر مقاربات سياسية واقتصادية، وليس فقط عسكرية. وقد يشكل ذلك بداية لانعطافة استراتيجية في الملف السوري، تنسجم مع مصالح بعض الأطراف الخليجية في احتواء النفوذ التركي بعد انهاء ذلك الإيراني داخل سوريا.
الهواجس من إيران وتفكيك مسار فيينا
ترامب لم يخف يوماً معارضته لأي اتفاق مع إيران. وزيارته في هذا التوقيت تهدف إلى تقويض المساعي الدبلوماسية الجارية بين إدارة بلاده ومفاوضين إيرانيين في مسار غير رسمي يرعاه الاتحاد الأوروبي. فبضغطه على دول الخليج لتشكيل جبهة موحدة ضد طهران، يؤسس ترامب لأرضية جديدة تعيدنا إلى منطق “الردع الصارم” لخدمة “الدبلوماسية الواقعية”. صفقات السلاح، والحديث عن نشر أنظمة دفاعية أميركية جديدة في قطر، كلها رسائل لإيران قد تكون لخدمة مسار التفاوض القائم عبر الوساطة العُمانية، لتسريع الوصول إلى اتفاق تاريخي، والرسالة مفادها أن المنطقة مقبلة على تصعيد لا تهدئة، في حال استمرت طهران في تحركاتها الإقليمية أو مشروعها النووي، ورفضت التوصل الى اتفاق نووي جديد، بحسب المنظور الأميركي.
أبعاد داخلية أميركية: الحملة تبدأ من الخليج؟
لا يمكن فصل هذه الزيارة عن السياق الداخلي الأميركي. ترامب الذي يستعد لحملة انتخابية صاخبة عام 2028، يريد أن يُظهر قوة حقيقية على الساحة الدولية تُقارن بما يعتبره "ضعفاً" في عهد بايدن. الخليج كان دوماً منصة مثالية للرؤساء الأميركيين لإظهار هيبتهم: عقود بمليارات، تحالفات أمنية، وصور إعلامية لزعماء العالم يقفون إلى جانب البيت الأبيض. لكن الأهم أن ترامب يريد أن يستثمر هذه التحركات لإقناع الداخل الأميركي بأن عودته أعادت أميركا إلى موقعها القيادي، وأوقفت تمدد الصين وروسيا وإيران في الشرق الأوسط.
من الخليج إلى آسيا الوسطى؟
ثمة بعد جيوسياسي أبعد مدىً في هذه الزيارة. ترامب يعلم أن طريق الخليج بات يربط بين أوراسيا وأفريقيا عبر الموانئ والممرات اللوجستية (الهند – الخليج – أوروبا). ولذا، فإن تحصين العلاقة مع الخليج يمنحه موقعاً استراتيجياً للضغط على مشاريع مثل "الحزام والطريق" الصيني و"الممر الاقتصادي الإيراني – الروسي".
زيارة ترامب إلى الخليج ليست مجرد حدث بروتوكولي، بل جزء من رؤية كبرى لإعادة رسم معادلات الإقليم بما يتماشى مع مصالح أميركا أولاً، وإسرائيل ثانياً. بين المال والسلاح، بين التطبيع والتصعيد، تتحرك الإدارة الأميركية بقيادة ترامب لإعادة التموضع في منطقة لم تعد تقبل بالأحادية القطبية، ولا بصفقات تُفرض من فوق. والمفارقة أن هذه الزيارة، التي أرادها ترامب تتويجاً لزعامته العالمية، قد تكون هي نفسها الشرارة التي تُسرّع تفكك المعادلات القديمة، لصالح نظام إقليمي جديد لا يزال يتشكل وسط النار.