نبيه برجي- خاصّ الأفضل نيوز
أجل "ليلة هيروشيما في الشرق الأوسط". ساعات وتغير فيها كل شيء. إذ لا ندري من يمتطي ظهر الآخر، دونالد ترامب أم بنيامين نتنياهو، يفترض أن نقرأ بدقة كلام الرئيس الأميركي "إيران أمام الفرصة الأخيرة ـ وربما الساعات الأخيرة ـ وقبل أن يتلاشى كل شيء". إذا لم يتلاش عسكرياً، لا بد أن يتلاشى دبلوماسياً: إما إزالة البرنامج النووي أو إزالة النظام الثوري هناك. هو المأزق الوجودي أمام تلك الخيارات المرة، وبعد تلك العقود الطويلة من الصراعات الجيوسياسية والجيوستراتيجية، وقد بدت، في لحظة ما، أثراً بعد عين.
لم يعد السؤال فقط أي مسار سياسي، بل أي مسار تاريخي للشرق الأوسط. تعرية كل الدول، وكل القوى المعادية لإسرائيل في المنطقة. ليأتي التعليق من المؤرخ الإسرائيليِّ شلومو ساند "... لكن الموتى ـ الموتى الفلسطينيون ـ ينتظروننا عند كل مفترق".
استطراداً، لا شرق أوسط آخر إلا بالدولة الفلسطينية.
كنا نعتقد أن الولايات المتحدة لا ترى من دولة في الشرق الأوسط سوى إسرائيل. الدول الأخرى، وكما كان يصفها السناتور جون ماكين إضافات طارئة على الخريطة، ليتبين لنا أنها لا ترى في العالم سوى إسرائيل. هكذا يسقط المؤتمر الدولي حول الدولة الفلسطينية قبل أن يولد، وهكذا سقطت المبادرة الديبلوماسية العربية التي أقرتها قمة بيروت، عام 2002، بعد إضافة بند "حق العودة" إليها.
الضربة جاءت للتو من السفير الأميركي في إسرائيل مايكل هاكابي الذي سبق واعتبر أن التغيير في الشرق الأوسط سيكون بأبعاد توراتية. صرح بأن دعم واشنطن للدولة الفلسطينية لم يعد مطلقاً، وقد تقام في منطقة أخرى في الشرق الأوسط، مقترحاً اقتطاع قطعة أرض من دولة إسلامية بدلاً من مطالبة إسرائيل بإخلاء الضفة الغربية.
غير أن الضربة القاضية أتت من البيت الأبيض الذي حث الحكومات على مقاطعة المؤتمر لأن أي خطوات "مناهضة لإسرائيل" قد يتخذها، تشكل تحدياً للمصالح الأميركية، ومهدداً بعقوبات مباشرة على تلك الحكومات.
وكانت مصادر دبلوماسية خليجية قد أكدت لـ"الأفضل نيوز" أن الرئيس الأميركي، ولدى زيارته الأخيرة للرياض، أكد للأمير محمد بن سلمان أنه يتعامل بإيجابية مع أي طرح دبلوماسي يؤدي إلى وقف الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيليِّ، تالياً إلى السلام في المنطقة.
وكان الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران قد دعا، في الثمانينات من القرن الفائت، إلى مؤتمر حول الشرق الأوسط في مدينة البندقية الإيطالية (VENISE ).
في اليوم التالي، تصدّر الصفحة الأولى من جريدة "النيويورك تايمز" مقال بعنوان "موت في البندقية"، في استعادة، ذات دلالات سياسية، لعنوان رواية للكاتب الألماني توماس مان التي تحمل العنوان نفسه. ميتران أدرك أن مفتاح الشرق الأوسط، وأزمة الشرق الأوسط، هو بيد الأميركيين. لا مجال لأي آخر أن يضع القضية على الطاولة.
لنأخذ علماً بألاّ دولة فلسطينية. وكان قد هال الرئيس الأميركي ضيق مساحة إسرائيل التي لا تصل حتى إلى مساحة ولاية نيوجيرسي التي تحتل المرتبة 47، من حيث المساحة، بين الولايات الخمسين. وكان واضحاً أنه يزمع توسيع تلك المساحة بإلحاق الضفة الغربية، وقطاع غزة بها.
ماذا يمكن أن يكون موقف السعودية وفرنسا اللتين كانتا وراء الدعوة إلى المؤتمر؟ الكلام الأميركي صدم العالم كله. ولكن ألا يعتبر الإنكليزي ديفيد هيرست أنه إذا كانت إسرائيل تعتبر أن الدولة الفلسطينية تطبق على صدرها، فإن القضية الفلسطينية، إن بقيت الجرح المفتوح في خارطة المنطقة، لا بد أن تطبق على روحها.
لا بل ماذا سيكون موقف الدول الأخرى التي ضاقت ذرعاً بالسياسات الهستيرية للحكومة الإسرائيليّة؟ لا تأثير على الإطلاق في ظل الفيتو الأميركي، أو المطرقة الأميركية.
الآن، وبعد الضربات الإسرائيليّة على أكثر الأهداف حساسية في الخارطة الاستراتيجية لإيران، يبدو واضحاً أن المطلوب من كل الدول في المنطقة، بما في ذلك تركيا، أن تطوف حافية، وحتى عارية، حول الهيكل.
وزير الدفاع يسرائيل كاتس قال "أن يد إسرائيل طويلة في الجو، وأيضاً في البحر. وباستطاعتها الوصول إلى أي مكان". ولكن بالقاذفات الأميركية وبالغواصات الألمانية. أي قوة عمياء تلك التي تقوم على السلاح المستورد من الخارج؟
لا دولة فلسطينية ولو على الورق. التوراة تقول ذلك، ولا سبيل إلا في إقامة سور من الجماجم حول "أمبراطورية يهوه"، سواء كما هي الآن أم حين تستكمل خريطتها إيديولولوجياً أو استراتيجياً، وقد لاحظنا كيف أن إسرائيل لا تكترث بالسيناريو الذي أعدّه دونالد ترامب لاستئناف دومينو التطبيع. هنا دولة فوق العالم وفوق التاريخ.
ذلك اليمين الرث، المثقل بكل عقد التاريخ، وبكل عقد الجغرافيا (كظاهرة فرويدية غربية الأطوار) يرى في العالم كله، باستثناء أميركا، عدواً له، وقد لاحظنا في التعليقات الصحافية والتلفزيونية، وكذلك على مواقع التواصل، كيف تتقيأ تلك المخلوقات ـ السوبر مخلوقات ـ النار والدم في وجه كل معترض. هاجس العداء شكل الرؤية السياسية، وحتى الرؤية الفلسفية، لدى حاييم وايزمان، أول رئيس للدولة، الذي فتنته قنبلة هيروشيما. هكذا القضاء الأبوكاليبتي على كل أعداء الدولة الذين هم، جدلياً، أعداء يهوه الذي ارتدى، تبعاً لما ورد في التوراة، الملابس المرقطة باعتباره ... رب الجنود!
الدولة الفلسطينية إن وصلت إلى المبنى الزجاجي في نيويورك فهي ستكون بمثابة اختبار لمعادلات القوة في العالم، وللعدالة البشرية، وربما للعدالة ما فوق البشرية. ولكن ما يبدو أمامنا ألا وجود لا للعالم العربي، ولا للعالم الإسلامي.
بطبيعة الحال لا وجود لأوروبا ولا حتى لروسيا والصين (حقاً من يستطيع العثور عليهما؟).
ثمة قطبان وحيدان (قرنان للقرن) هما أميركا وإسرائيل اللتان، وإلى إشعار آخر، تحكمان العالم، بل وتحكمان التاريخ أيضاً. لا دور للآخرين سوى مراقصة الرياح حيناً، ومراقصة النيران حيناً آخر ...