د. علي ناصر ناصر - خاصّ الأفضل نيوز
يقع العراق في موقع استراتيجي يربط أطراف الشرق الأوسط الشمالية والغربية مع أطرافه الجنوبية والغربية ويتصل بحدود جغرافية مع إيران وتركيا وسوريا والكويت والسعودية والأردن ويضم إقليم كردستان الذي يتمتع بحكم ذاتي حيث يعمل "الأكراد" على بناء دول كردية تقتطع جزءًا من العراق وسوريا وإيران وتركيا ويرتبطون بعلاقة جيدة مع الكيان الصهيوني في فلسطين. ويضم العراق مخزونًا نفطيًّا هائلًا هو الخامس عالميًّا.
بعد حوار استراتيجي استمر حوالي عامين اتفق القادة الأمريكيون والعراقيون في تموز/يوليو 2021 على تحويل الوجود العسكري الأمريكي إلى مهمة استشارية غير قتالية. ولكن لم يحدث ذلك ولم تنفذ الولايات المتحدة انسحابها من العراق حيث أبلغ الرئيس بايدن الكونغرس في عام 2023 أن القوات الأمريكية لا تزال موجودة في العراق من أجل تقديم المشورة لقوات الأمن العراقية وللقوات الكردية. وتنفذ القوات الأمريكية المنتشرة في العراق ضربات عسكرية ضد قِوى عراقية تتهمها بتنفيذ هجمات ضدها.
المصالح الاستراتيجية الأمريكية اتجاه العراق
تنطلق السياسية الأمريكية في تعاملها مع الجغرافيا العراقية من خمسة محددات استراتيجية:
أولاً: مواجهة إيران وظهر ذلك عندما اجتاحت أمريكا العراق عام 2003، وأفغانستان عام 2001. كان الهدف الرئيسي منهما محاصرة إيران من جهة الغرب والشرق بالإضافة إلى تواجد الأسطول الخامس الأمريكي من جهة الجنوب في الخليج العربي بحيث تصبح الطريق مقفلة على إيران سواء نحو البحر الأبيض المتوسط أو نحو المحيط الهندي ويتم حصرها مع روسيا في حدود آسيا الوسطى.
ثانياً: التنافس المستمر مع الصين وروسيا حيث تعمل الولايات المتحدة على توقيع اتفاقيات ثنائية تعطيها امتيازات استراتيجية في المنطقة وتجعل منها اللاعب الرئيس على الساحة الإقليمية. ويقود ذلك بطبيعة الحال إلى خفض مستويات العلاقة العراقية مع روسيا والصين التجارية والاقتصادية.
ثالثاً: نشر الرأسمالية الأمريكية والتحكم الاقتصادي حيث تدفع الولايات المتحدة نحو بنية اقتصادية تعتمد على فتح الأسواق وإلغاء الحواجز الجمركية والتنافس الحر ممّا يدفع بالقوة الرأسمالية الأمريكية إلى السيطرة بسبب قدرتها الهائلة على المنافسة الدولية.
رابعاً: التوازن الإقليمي الذي يدفع إلى إبقاء الساحة العراقية خالية من أي تأثير أو سيطرة إقليمية وتحديداً إيرانية ومنع اختلال توازن القوة القائم في المنطقة. والرؤية الأمريكية لهذا التوازن دفعها لاحتلالِ العراق عام 2003 بسبب هزيمة إسرائيل وانسحابها من لبنان عام 2000.
خامساً: حماية أمن إسرائيل والحفاظ عل تدفق الأسلحة إليها والحقيقة أن هذه وظيفة جميع القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة خاصة تلك الموجودة في الدول القريبة من الكيان الصهيوني حيث تعمل على تأمين الحماية الجوية له وتعترض جميع المقذوفات الصاروخية التي قد تتجه نحوه.
القواعد العسكرية الأمريكية في العراق
احتلت الولايات المتحدة العراق عام 2003 وانسحبت منه عام 2011 على مضض وبعد خسائر ثقيلة تعرض لها جيشها عادت وتدخلت في العراق عام 2014 على رأس قوة دولية من أجل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" ، وانتهت العمليات القتالية الأمريكية رسمياً في العراق عام 2021، وبقي 2500 جندي يقدمون المشورة الأمنية والعسكرية للقوات العراقية، وهي تماطل من أجل عدم الانسحاب منه بعد تلقيها طلبات بذلك من الحكومات العراقية المتعاقبة.
تنشتر القوات الأمريكية في القواعد العسكرية على الأراضي العراقية عملاً بالاتفاقية الأمنية الموقعة بين البلدين في قواعد مشتركة مع الجيش العراقي وهي في حركة مستمرة سواء برياً أو جوياً وتستخدم مرافق الدولة العراقية في ذلك ويظهر هذا الوجود من خلال:
أولاً: قاعدة الحرير الجوية التي تقع في شمال إقليم كردستان، تستخدمها الولايات المتحدة منذ عام 2003، وأعيد تفعيلها عام 2015، وتم توسيعها عام 2018، وأي انسحاب للقوات الأمريكية من سوريا سيكون باتجاهها، وتبعد 115 كلم عن الحدود الإيرانية، وهي مركز العمليات الخاصة للقوات الجوية الأمريكية وتضم رادارات متطورة، وتستخدمها الولايات المتحدة من أجل تدريب القوات المسلحة الكردية (البشمركة)، ومنها تنطلق القوات الأمريكية إلى سوريا، وقد قصفتها إيران عام 2020 بعد أن اغتالت الولايات المتحدة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني.
ثانياً: قاعدة عين الأسد الجوية وهي قاعدة مشتركة بين الجيش العراقي والجيش الأمريكي تقع غرب العراق، تتمركز فيها معظم القوات الأمريكية، وهي الأكثر تعرضاً لهجمات المقاومة العراقية، قصفتها إيران عام 2020 مع اغتيال اللواء "سليماني"، وزارها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" عام 2018. تستخدم القاعدة من أجل نقل المؤن والعتاد ومركز تدريب للجيش العراقي وملاجئ محصنة للطائرات.
ثالثاً: قاعدة بلد الجوية وهي أكبر قاعدة جوية في العراق، تبعد 64 كلم عن العاصمة العراقية بغداد، لديها ملجأ محصن للطائرات. تستخدمها القوات الأمريكية لأغراض الصيانة ونقل العتاد وهي مشتركة بين القوات الأمريكية والعراقية.
رابعاً: قاعدة الحبانية تقع في وسط العراق وتبعد 74 كلم عن العاصمة العراقية بغداد، تعمل فيها بشكل مباشر قوة من مشاة البحرية الأمريكية وتستخدم لأغراض طبية، وتضم مخازن للسلاح.
خامساً: قاعدة التاجي وتبعد حوالي 30 كلم عن العاصمة العراقية بغداد وتضم مستودعات للصواريخ ومخازن للأسلحة.
سادساً: قاعدة سبايكر الجوية وتقع في شمال العراق وتضم قوات من التدخل السريع، إضافةإلى ذلك هناك تواجد عسكري أمريكي مستمر في مطار بغداد الدولي. إضافة إلى جميع القواعد العسكرية المنتشرة على الأراضي العراقية تقترب السفارة الأمريكية في العراق من كونها قاعدة عسكرية أكثر منها سفارة تقوم على تبادل العلاقات الدبلوماسية بين بلدين بفعل مساحتها وبنائها التجهزيات التي تحتويها.
هل يوجد مصلحة عراقية في القواعد العسكرية الأمريكية؟
لم تنشأ القواعد العسكرية الأمريكية في العراق نتيجة حلف استراتيجي بين دولتين أقدمتا عليه بفعل الإرادة الحرة التي يمتلكانها. فالقوات العسكرية الأمريكية في العراق نشأت بفعل الاجتياح الأمريكي له، والغزو حصل بفعل القيمة الاستراتيجية لدولة العراق، وبفعل اختلال التوازن في الشرق الأوسط بعد الهزيمة الإسرائيلية في جنوب لبنان. والاجتياح الأمريكي حصل نتيجة الفكر التوسعي الأمريكي والرغبة في السيطرة والتحكم ولا يوجد أي مصلحة للدولة العراقية في ذلك.
تسبب القواعد العسكرية الأمريكية في العراق ضربًا للوحدة الوطنية العراقية حيث تعمل الولايات المتحدة على ضرب النسيج الوطني العراقي وتعمل على زيادة التفرقة والخلاف بين مكونات الدولة العراقية وبنية المجتمع العراقي الذي يمتاز بالتنوع، والأخطر أن القواعد العسكرية الأمريكية داخل العراق ترتبط بتلك التي في الداخل السوري بحيث أن من وظائف القواعد العسكرية الأمريكية خرق السيادة للدولة العراقية والسورية، خاصة من خلال القواعد العسكرية الأمريكية القائمة في شمال العراق، هي بذلك تعمل على تفتيت العراق وسوريا معاً.
يتمتع العراق بقدرات اقتصادية هائلة قوضتها الولايات المتحدة حيث عملت على دفع الفاسدين نحو التحكم بصناعة القرار وحصر البنية الاقتصادية العراقية بالعملية النفطية دون سواها من البنية الصناعية والزراعية للدولة، وقد عملت على نشر الفوضى عبر حل جميع الأجهزة الأمنية العراقية من دون سياق أو أهداف واضحة سوى خلق حاجة مستمرة للوجود العسكري الأمريكي، إضافة إلى الضغط على الدولة للقبول المستمر للمعونات الأمنية والعسكرية الأمريكية عبر خلق بنية عسكرية وأمنية تستخدم المعدات والأسلحة الأمريكية وتبقي الدولة العراقية في حاجة مستمرّة لوجود خبراء عسكريين أمريكيين على أراضيها.