د. أكرم حمدان - خاصّ الأفضل نيوز
منذ أيام ودّع لبنان شخصية كبيرة ومهمة من شخصياته القلائل على الصعيدين الوطني والسياسي، عنيت به الرئيس الدكتور سليم الحص الذي كان يُمثل فعلا لا قولا ضمير لبنان ويُمكن أن نسميه ناسك السياسة اللبنانية بكل تجلياتها وتعقيداتها وزواريبها البغيضة.
لقد قيل الكثير في رثاء ونعي الرئيس الحص رحمه الله من المحبين والأصدقاء وحتى الخصوم،إلا أن الثابت والمشترك بين هؤلاء جميعاً كان أن الراحل رجل دولة بكل معنى الكلمة،فسواءً اتفقت معه في السياسة أم اختلفت ،فإنك ملزم باحترام هذا الرجل الذي عاش محترَما ورحل محترَما.
هو الرجل الوقور، المبدئي، العنيد في الحق،الحائد عن الباطل،الزاهد في الدنيا ومباهجها ،نظيف الكف ،عفيف اللسان،المقاوم الجسور بالقلب واللسان.
لقد كان الرئيس الحص مزعجا في حياته وخصوصاً خلال توليه السلطة..ولكن للفاسدين والمفسدين والناهبين والمزورين والمرائين والكاذبين والسافلين وتجار السياسة والدين والطوائف.
لقد كان رجلاً عصاميًا نشأ يتيماً في عائلة فقيرة، وبنى لنفسه "صومعة" من المُثُل والقيم،وبصماته واضحة للذين يفتشون اليوم عن مفاهيم الدولة الحديثة، والشفافية، والمفاهيم الوطنية والأخلاقية.
كان مثالا للصمود في أقسى ظروف الحرب والانقسام، ورجل الدولة في أصعب الظروف وعنواناً للتغيير والإصلاح في أصعب الأزمات وتعقيداتها، وكان رجل علمٍ وفي جعبته 22 مؤلّفاً، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، نشر آخرها في الـ 2008.
كان يدعو لنبذ الأحقاد والتشبّث بالوحدة الوطنيّة والإيمان بالعروبة،ويرى أنْ لا إصلاح من غير مُصلحين، ومن القائلين بأنه لا يلجأ إلى العنف إلاّ فاقد القضيّة، وأنّ سلاح الموقف له بُعد أخلاقي، وكان يرى أنّ أميركا قد تكون لا تريد شيئاً من لبنان، ولكنّها تريد الكثيرالكثيرعبره، فهي عبر لبنان تضغط على الفلسطيني والسوري والإيراني والسعودي وسواهم.
في كتابيْه "في زمن الشدائد" و"نحن والطائفيّة"، يقول الرئيس الحص أنّ اللبنانيّين لم يتصرّفوا يوماً كشعب، وإنما كقبائل تُسمّى (في هذا العصر) طوائف، كما يستعرض القرارات والمراسيم والبيانات والمبادرات التي تبنّاها لتجاوز الحالة الطائفيّة، والعقبات التي واجهته.
وهو صاحب المقولة الشهيرة "يبقى المسؤول قوياً إلى أن يطلب أمراً لنفسه".
نباتي بالفطرة والفكرة، شفّاف بقرار،عفيف اللسان والنفس والجيب وعصي على الفساد، لا يعرف الخمر والميسر ولا الزوربة.
لقد كان الرئيس الحص مثالاً يحتذى في إدارة الحكم، ونموذجاً لرجل الدولة بكل مواصفات الوطنية والمناقبية والأخلاق والعفة والنزاهة والإخلاص، لم يتلوث بفساد،ولم يرضخ لهيمنة أو وصاية، ولم ينحنِ أمام كل المغريات أو التهديدات، ولم يطلب شيئاً لنفسه منذ دخل إلى مناصب السلطة وزيرا أو نائباً أو رئيس حكومة.
لقد كان الرئيس الحص رحمه الله، عروبياً مؤمناً، مدافعاً لا يلين عن وحدة لبنان وعروبته واستقلاله، مواجهاً لكل مشاريع التقسيم والفيدرالية، ومعادياً بقوة للصهيونية والاستعمار، وداعماً قوياً للمقاومة اللبنانية والفلسطينية ولكل قضية حق عربية وعالمية، ويكفه فخراً في سيرة حياته أنه كان رئيس الحكومة عندما حررت المقاومة واللبنانيون بلدهم من الاحتلال الصهيوني عام 2000، وبقي طيلة حياته يحمل قضية استكمال تحرير ما تبقى من أراض محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
لقد احتضن الرئيس سليم الحص رحمه الله، المبعدين من منطقة العرقوب وبلدة شبعا تحديدا عام ١٩٨٨ عندما أقدمت قوات الاحتلال على إبعاد عشرات العائلات بهدف تفريغ المنطقة من أهلها. و كان داعما لأبناء العرقوب عندما خاضوا الانتفاضات المتتالية ضد مشاريع التهويد والإدارة المدنية التي حاول فرضها الاحتلال.
وكان للرئيس الحص، الذي كان أول رئيس حكومة يزور شبعا والعرقوب، مواقف حاسمة في دعم أبناء العرقوب في مواجهة محاولات فرض التعليم العبري، عندما كان وزيرًا للتربية،كما تبنّى قضية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وكان له دور حاسم في تسجيل تحفظ لبنان على الانسحاب الإسرائيلي عام ٢٠٠٠.
مهما كتبنا عنه لن نعطيه حقه، فهو ناسك السياسة اللبنانية ومن القلائل الذين دخلوا وخرجوا من معترك السياسة بلا مغانم.
لقد أخبرني أحد الموظفين الكبار في أحد المؤسسات الرسمية، رحمه الله، بأن المسؤولين في مختلف السلطات كانوا يهابون الرئيس الحص ويعملون حساب موافقته أو رفضه لأي فكرة أو مشروع وكيف كانوا يعانون في إقناعه بأي فكرة، فهو كان من المعروفين بأنه لا يُمكن أن يسير بأي مقترح أو فكرة إذا لم يكن مقتنعًا بها وإذا كان فيها مجرد احتمال لمخالفة القانون أو الدستور.