د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
لطالما أمل الحالمون، وانتظر الطامحون — وليس إسرائيل أو الغرب وحده — بل أيضًا كثير من العرب، ومعهم جزء من اللبنانيين، باللحظة التي ينكسر فيها حزب الله، وأن تؤدي الضربات الجوية المهولة والوحشية التي استهدفت أمينه العام السيد حسن نصرالله، ومعه عدد من قيادات الصف الأول والثاني (وما زالت مستمرة حتى الآن)، إلى القضاء على قوته العسكرية، وبالتالي إضعاف حضوره ونفوذه السياسي في المجتمع اللبناني، كون ذلك سيسهّل على هؤلاء من أعدائه الخارجيين، وخصومه في الداخل الانقضاض عليه، حتى لو كان من نتائج ذلك إراحة إسرائيل، وتمكينها من استباحة أراضي وسيادة لبنان دون رادع أو وازع.
لكن مهلاً، وكما كان متوقعاً، الميدان قال كلمته في جنوب لبنان. شيئاً فشيئاً يغرق الجيش الإسرائيلي في الوحل اللبناني المجبول بدماء رجال المقاومة الذين حوّلوا دباباته التي تجرأت على دخول الأراضي الجنوبية إلى توابيت حديدية متنقلة، فيما أصبح ضباطه وجنوده عبارة عن طرائد سهلة تلاحقهم صواريخ وقذائف عناصر حزب الله حتى في مخابئهم ودشمهم المحصّنة.
وتبعاً لذلك، تتكبّد إسرائيل المزيد من الخسائر يومياً. فضلا عن أن أرقام قتلاها وجرحاها في ارتفاع مستمر، وآخرها ما حصل اليوم حيث اعترف الاحتلال بمقتل 15 ضابطاً وجندياً خلال الـ24 ساعة الماضية. وهذا بدوره كفيل بنسف تلك الأماني والتصورات الخيالية المتعلقة بانهيار حزب الله، الذي يقرّ أشهر رجالات السياسة الأمريكيين وهو السفير السابق رايان كروكر — الدبلوماسي المخضرم والمعروف بلقب "لورنس العرب الأمريكي" لفهمه العميق للشرق الأوسط وقد خدم طويلاً في لبنان ودول المنطقة — بأن هذه الحرب لن تنال من الحزب، بخلاف ما تروّج له الدعاية الغربية وبعض الأبواق الإعلامية اللبنانية.
ما هي رؤية كروكر لمستقبل حزب الله؟
يشبّه الدبلوماسي الأمريكي العريق الوضع الحالي كثيراً بما حدث قبل أربعة عقود عندما هاجمت إسرائيل لبنان، حيث أدّى الاحتلال الإسرائيلي اللاحق إلى ظهور حزب الله، مؤكداً أن هذه الغزوة لن تنهيه. ويضيف كروكر: "شيء واحد تعلمته على مر السنين، خاصة في العراق وأفغانستان، هو أن مفهوم هزيمة الخصم له معنى فقط، في ذهن ذلك الخصم. إذا شعر ذلك الخصم بالهزيمة، فهو مهزوم. إذا لم يشعر، فهو ليس كذلك." وبالطبع هذا هو حال الحزب مع جمهوره اليوم، الذي يؤمن بالنصر المحتوم على الكيان الغاصب.
أكثر من ذلك، يتطرّق كروكر إلى سياسات رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي رفع سقف التوقعات بشكل عالٍ للغاية، مشيراً إلى أن الأخير يحاول وقف إطلاق الصواريخ بطريقة نهائية حتى يتمكن 60 ألف إسرائيلي من العودة إلى ديارهم في الشمال. على الرغم من أن كل ما يتعين على حزب الله فعله هو الاحتفاظ بعدد كافٍ من الصواريخ التي تعبُر الحدود لجعل ذلك الأمر صعباً.
وإذ يستطرد كروكر قائلاً: "إنها حقاً حالة حرب ضبابية حيث أنه من الصعب للغاية رؤية مدى قوة حزب الله في الوقت الحالي"، يضيف: "أنا كبير بما يكفي لألقي نظرة طويلة جداً. كنت في لبنان عام 1982 غداة الغزو الإسرائيلي. وأطلقوا على عمليتهم اسم "سلامة الجليل". وبعد مرور 42 عاماً، أصبح لبنان أبعد عن السلام مما كان عليه بعد الاجتياح.
إنجازات إسرائيل وثقتها الزائدة
انطلاقاً من خبراته الكبيرة في تتبّع قراءة الأحداث والحروب ومواكبتها كواحد من القيادات الأمريكية المعنية بما كان يُطبخ للبنان والمنطقة، يتوقف كروكر عند حقيقة في غاية الأهمية، ألا وهي أنه إذا أقنعت إسرائيل نفسها بأن إنجازاتها العسكرية والاستخبارية الكبيرة تشكّل نصراً فعلياً، فهذا برأيه أمر خطير، مؤكداً أن الخطر يزداد إذا بدأنا نحن أيضاً بالتصديق بذلك.
من هنا، يستحضر الرجل المبادرة التي قدّمها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في الثمانينات بشأن لبنان وتحقيق تسوية سلمية مع إسرائيل، فيقول: "إذا اعتقدنا أن الأضرار التي لحقت بقيادة حزب الله والقضاء على يحيى السنوار وغيره من قادة حماس، ستترجم بطريقة ما إلى ديناميكية جديدة لتحقيق السلام، أو أننا سنتمكن من تحويل ذلك إلى تسوية عالمية شاملة، فإن هذا سيقود إلى كارثة". ويضيف: "لا أرى شيئاً جيداً يأتي من هذا".
الموقف من اختلال غزة
المثير أن كروكر يُبدي تشاؤمه بما يخطط له الإسرائيليون الذين يفكرون في احتلال عسكري طويل الأمد لقطاع غزة، مشدداً على أن هذا سيؤدي ببساطة إلى تمرد طويل الأمد. ويلفت الانتباه إلى أن هناك شيئاً تغير بشكل جوهري منذ السابع من أكتوبر، وهو استعداد إسرائيل لقبول عدد معين من خسائر قواتها على المدى الطويل، أكثر مما كانت ستسلّم به في السابق.
ويُوضح السياسي الأمريكي، أنه في السنوات الثمانية عشر في لبنان، أي من 1982 إلى 2000، فقدت إسرائيل حوالي 1100 جندي، وكان هذا رقماً كبيراً لن تقبل أي حكومة إسرائيلية تكراره مرة أخرى. لكن بعد خسارة 1200 شخص في يوم واحد، تغيرت هذه المعادلة. وبالتالي، فإن استعداد إسرائيل للتعايش مع تمرد طويل الأمد في غزة واحتلال غير محدد، أصبح أعلى بكثير مما كان عليه قبل 7 أكتوبر.
وماذا عن النشوة الإسرائيلية باغتيال نصرالله وأحزمة النار في المناطق اللبنانية؟
في الحقيقة، وفي أعقاب قيام إسرائيل بقتل سيّد المقاومة والعديد من قيادات الحزب الكبار، وآخرهم رئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين، ثم شروعها بتدمير المدن والبلدات والقرى والمنازل في الجنوب والبقاع والضاحية بدافع الانتقام واستعادة "الردع"، احتفل القادة الصهاينة ومعهم الجمهور الإسرائيلي بهذه الجرائم على تطبيق TikTok.
غير أن هذه النشوة قد تكون قصيرة الأمد، خصوصاً مع بدء الاستنزاف في لبنان كما هو حاصل حالياً، حيث يواصل مقاتلو حزب الله تحدي القوات الإسرائيلية والنيل منها واستهدافها بكثافة، لمنعها من تثبيت احتلالها.
ومثلها غيرها من الحروب الثانوية الأخرى التي حدثت في الماضي (مع الفارق أن حجم الوحشية الإسرائيلية غير مسبوق في التاريخ)، كالقصف الفرنسي لتونس في أواخر خمسينيات القرن العشرين، والقصف الأمريكي لكمبوديا في الفترة 1969-1970 — فمن غير المرجح أن يقدم الهجوم على لبنان أكثر من عزاء عابر للصهاينة.
فقتل نصرالله لن يهزم الحزب، ناهيك عن استسلام الشعب اللبناني. فالتقديرات الإسرائيلية تعترف بأن حزب الله أعاد ترميم قيادته وقوته. والأهم أنه سيتم استبدال السيّد وكوادره بجيل جديد لا يقل شراسة عن أسلافهم، كونهم سيتذكرون المذابح والمجازر التي سببتها واحدة من أكثر حملات القصف المكثفة في لبنان في القرن الحادي والعشرين.
في المحصّلة، صحيح أن شهادة نصرالله تمثل نكسة كبيرة للحزب، إنما لا شيء يُغذّي المقاومة مثل الظلم والقتل وسفك دماء الأبرياء والمدنيين. والأسوأ أن قادة إسرائيل يدركون هذه الحقيقة دائماً، وهو ما كشفه موشيه ديان (رئيس الأركان الإسرائيلي في العام 1956) الذي قال في خطبته الجنائزية التي ألقاها في العام ذاته، أثناء تأبين أحد الجنود الذي قُتل على حدود غزة على يد مسلحين فلسطينيين: "دعونا لا نلقي اللوم على القتلة، لماذا يجب أن نشكو من كراهيتهم لنا؟ لقد جلسوا لمدة ثماني سنوات في مخيمات اللاجئين في غزة، ورأوا بأمّ أعينهم كيف جعلنا وطناً من التربة والقرى التي عاشوا فيها هم وأسلافهم ذات يوم".