نبيه البرجي - خاص الأفضل نيوز
افتتان استراتيجي أم افتتان جمالي بلبنان ؟ السفير السابق ريتشارد جونز كان يعتزم البقاء في بيروت بعد انتهاء مهمته ، حتى أنه تعاقد مع إحدى الجامعات للعمل فيها . قال هنا "تشعر كما لو أنك ولدت ثانية لتكون لك حياتك الثانية" ، لكن الإدارة لم توافق على بقائه بحجة الحفاظ على أمنه الشخصي . واقعاً الخوف من أن يستدرج بطريقة أو بأخرى إلى البوح بأسرار السفارة وما أدراك كم هي هائلة أسرار السفارة !!
أما الروائي الأميركي دوغلاس كنيدي فكان له رأي ملتبس "هنا لا تدري ما إذا كنت في الجنة أم في جهنم" ، لعلنا هكذا . قدم في الجنة وقدم في جهنم، الأميركيون لا يفقهون سوى لغة المال ، إيديولوجيا المال تذكرون أفلام الويسترن الكاوبوي ينطلق وحيداً على حصانه عبر الألدورادو (طريق الذهب) نحو الغرب الآن دونالد ترامب يتجه الى الشرق ، حيث الألدورادو الآخر.
حين يكون الأمبراطور شرهاً الى ذلك الحد، ثمة قول رائع لمحمد حسنين هيكل "الأميركيون يقولون إنهم هنا لحماية العرب من العرب ،كم نتمنى لو يحمينا الأميركيون من الأميركيين" هذه هي المفارقة السريالية أميركا في غرف نومنا لا أحد غيرها هنا، الاستراتيجية الروسية بطيئة وباردة كما الدببة القطبية ،الصين ، وحيث التنين حيناً بأجنحة الفراشة وحيناً بكتفي بائع متجول.
في عهد جورج دبليو بوش ، فكّر ديك تشيني بإنشاء محطة رادارية على قمة الباروك لتغطية المنطقة الممتدة من قناة السويس وحتى مضيق الدردنيل . الآن ، حديث في الظل عن رغبة إدارة ترامب بإنشاء قاعدة على الشاطئ اللبناني للإشراف على استخراج وتسويق غاز شرقي المتوسط . أقاويل كثيرة حول اتصالات تركية ـ إسرائيلية تتعلق باستثمار حقول الغاز السورية في ظل معلومات تتردد حول وجود احتياطي هائل ما يجعلنا نتوقع سلسلة أخرى من الصراعات حول سوريا مادامت الطاقة قد أعطت للمنطقة ذلك البعد الاستراتيجي المعقد
حيثما يكون الذهب، ولو كان الذهب الأسود ، يفترض أن تكون قبعة الكاوبوي ، وأن يكون حصان الكاوبوي لكي نعرف كيف يفكر الأميركيون ننقل هذه الواقعة المثيرة عن لسان صديق كان يعمل محاسباً في السفارة الأميركية عام 1983 ، وحين كانت تعقد المفاوضات المكوكية بين لبنان (في خلدة) وإسرائيل (في كريات شمونا) ، وقد انتهت باتفاق 17 أيار الذي لم ير النور ، كان هناك الديبلوماسي الأميركي موريس درايبر الذي يتولى التنسيق بين الجانبين .
في إحدى المرات بينما كان موكب درايبر متوقفاً في منطقة الأوزاعي بسبب الزحام وصلت إليه رائحة الفلافل من مطعم صغير هناك (دكان للفلافل) ترجل شخصياً واشترى سندويش بـ 35 قرشاً ، ثم طلب فاتورة بالمبلغ احتار صاحب المطعم الذي رأى الموكب المهيب ، ودوّن الفاتورة على ورقة للف السندويشات . درايبر قدم الفاتورة الى المحاسب الذي حاول عبثاً أن يخفي ذهوله . قال لي "فكرت للحظة أن أعطيه المبلغ من جيبي" !
من زمان والأميركيون ينظرون الى الموقع الجيوستراتيجي الحساس للبنان عام 1958 ، غداة انقلاب 14 تموز في العراق بقيادة عبد الكريم قاسم (الزعيم الأوحد) ، والذي قضى بالرصاص على كل أفراد العائلة الملكية ، حصل إنزال أميركي على الشاطئ اللبناني خشية الهزات الارتدادية للانقلاب الذي أنهى "حلف بغداد" . جنود المارينز راحوا يتجولون في شوارع جونية كما لو أنهم يتجولون في شوارع لوس انجلس . الضربة الكبرى في تشرين الأول 1983 حين تم تفجير مقر إقامة وحدة المارينز قرب مطار بيروت ، ما أدى الى مصرع 241 ضابطاً وجندياً ،مع اتهام إيران بالوقوف وراء العملية ، ليبقى الحدث ، حتى الآن في الذاكرة الأميركية.
لبنان الآن "حالة أميركية" ؟ في بعض الأوساط "أليس أفضل من أن يكون حالة إيرانية أو أن يصبح حالة إسرائيلية أو حتى حالة تركية إذا ما أخذنا بالاعتبار الوضع السوري الراهن ؟" . في كل الأحوال لم يكن لبنان يوماً حالة لبنانية وحتى قبل مراسلات دافيد بن غوريون وموشي شاريت في بداية الخمسينات من القرن المنصرم مع التذكير بأن الطائرات الإسرائيلية كانت تحلق في الأجواء اللبنانية منذ ذلك الحين.
في الحرب الأخيرة كانت الخطة الإسرائيلية تلحظ تفجير لبنان تميداً لما هو أخطر بكثير . هذا ما يتناقض مع المصالح الأميركية التي كانت تتبنى تغيير المسار الاستراتيجي للبنان ، لم يكن وارداً لديها تغيير الخريطة . هنا تتحدث وكالة بلومبرغ عن "نقطة الانفجار بين ترامب ونتنياهو" . الشرق الأوسط بما في ذلك إسرائيل منطقة أميركية وليس كما يفكر زعيم الليكود أن يكون منطقة اسرائيلية . الديبلوماسي المخضرم ريتشارد هاس تساءل ساخراً إذا ما كان نتنياهو "يتعامل مع أميركا كونها رهينة إسرائيلية في الشرق الأوسط" .
ثمة رجل في البيت الأبيض يدعو الى توسيع مساحة بلاده أفقياً وعمودياً هذا لم يحدث منذ مائة عام ما تغيّر لم تعد "إسرائيل أولاً" بل "أميركا أولاً" القادة الإسرائيليون يفضلون في هذه الحال أن يقفلوا عيونهم حين يرون أن غيوماً سوداء تتلبد في الأفق بعدما كان ذئاب أورشليم يفكرون بإقامة منطقة عازلة في لبنان ، ها هم تحت ضغط الاندفاعة الجنوبية يوم الأحد 26 كانون الثاني ، وبأمر من الرئيس الأميركي يقررون الانسحاب الكلي في 18 شباط المقبل.
نقطة الالتقاء بين ترامب ونتنياهو هو "فن صناعة الأعداء" أو "فن تحويل الحلفاء الى أعداء" ، الجنرال إسحق بريك يخشى أن "نجد أنفسنا ذات يوم تحت أنقاض منزلنا" !