نبيه البرجي - خاص الأفضل نيوز
في لقاء مع المستشرق الفرنسي جاك بيرك، خريف عام 1986، وكانت الحرب بين العراق وإيران في ذروة احتدامها، قال لي "كنت أتمنى لو حلّ رفيف طيور الفلامنغو، بدل أزيز الطائرات، على ضفتي الخليج"، مبدياً افتتانه بالبعد الشاعري، والتاريخي، لهذه المنطقة ليسأل "لا أدري كيف تقبلون بأن يلقي بكم الآخرون في النيران".
حتى الآن، ما زال الآخرون يلقون بنا في النيران، ونحن نرى كيف يتقهقر التاريخ هنا بذلك الإيقاع الدرامي المروع.
المفكر المصري حسن نافعة استغرب كيف نمتطي ظهر التاريخ (وغالباً ما يمضي بنا إلى ثقافة القبور) بدل أن نمتطي ظهر القرن للدخول في لعبة الصراع مع الأزمنة. هكذا يجري استهلاكنا واستنزافنا على مدى عقود، لتظهر النكبات الأخيرة، ومن غزة إلى لبنان، مدى رهاناتنا الخاسرة بإصرارنا على البقاء على مسافة ضوئية من الثورة التكنولوجية، ما بعد الثورة التكنولوجية...
اللافت، في هذا السياق، قول المؤرخ، والأنثروبولوجي، الفرنسي إيمانويل تود أن السياسات الهيستيرية الإسرائيلية لا تغيّر الشرق الأوسط بل توقظ الشرق الأوسط. كيف؟ بالوعي بالمؤشرات التي تؤكد على أن جنون بنيامين نتنياهو يتقاطع، أو يتماهى، مع جنون دونالد ترامب، لإعادة النظر في خرائط المنطقة، وبطبيعة الحال في دول المنطقة، لتدور، بالعكازات الخشبية، حول البيت الأبيض.
تالياً حول الهيكل. وهذا ما يتناقض، جدلياً، مع المسار الإيديولوجي، والمسار التاريخي، للمجتمعات العربية التي لم تكن فقط ضحية لعبة الأمم، وإنما أيضاً ضحية لعبة الطرابيش، خصوصاً بعد ظهور تلك النزعات الغيبية، والغبية، لدى بعض القوى، لإحياء أمبراطوريات سقطت إلى الأبد مع انفجار الزمن التكنولوجي في الضفة الأخرى من الكرة الأرضية.
وإذا كانت الأحداث الأخيرة، بكل أهوالها، قد أدت إلى الانكفاء الجيوسياسي الإيراني، لسنوات، وربما لعقود، طويلة، بدا أن هناك في الإقليم من خطط لانتهاز هذه الفرصة، باستراتيجية التسلل في الظلام لـ"ملء الفراغ"، لا من خلال الصرخات، والصواريخ. ليواجه بالحراك الديبلوماسي السعودي الذي نشط، على نحو لافت، في الفترة الأخيرة، في محاولة لاستيعاب الوضع، وإحداث حالة ديناميكية باستطاعتها مواجهة السيناريو الذي في رأس نتنياهو، أو في أي رأس آخر، مع التوقف عند بعض أعضاء الفريق الرئاسي في الولايات المتحدة. هؤلاء يعتقدون أن في الرؤية التوراتية "الحل الإلهي" لأزمة، أو لأزمات، المنطقة.
اللحظة المدوية كانت في توجه الأمير خالد بن سلمان، وزير الدفاع السعودي على رأس وفد عسكري، وهذا له دلالاته، إلى طهران، حاملاً رسالة من الملك سلمان إلى آية الله خامنئي، ومع اعتبار، وفي هذا الوقت بالذات، أن الأمير الشاب خبير في الخفايا الأميركية منذ أن كان سفيراً لبلاده في واشنطن.
الصورة واضحة تماماً، وهو إحداث تغيير نوعي في العلاقات بين الرياض وطهران قد يأخذ منحى استراتيجياً، بعدما راح المسار الديبلوماسي يتباطأ حيناً، ويتعثر حيناً آخر، بعد اتفاق بكين في 10 أذار 2023، والذي رعاه، شخصياً شي جين بينغ.
هل نكون، في المدى القريب، أمام رؤية مشتركة لا بد أن تكون لها تداعياتها على المشهد الشرق أوسطي؟
الدولتان أبدتا ارتياحهما لـ"القفزة" الأخيرة. ولطالما راهنا على إزالة جدار النار، أو حتى جدار الرماد، بين ضفتي الخليج، ما يفتح أبواب الحل للأزمات التي تراكمت، وتفاعلت دموياً، من جبال مران في اليمن إلى ضفاف المتوسط في لبنان.
يقيننا لو أن الجولات الديبلوماسية بين السعودية وإيران تواصلت، وأدت إلى نتائج على الأرض، لما كانت المنطقة الآن في اجترارها المرير للكوارث، كما للاحتمالات. هذا ليس وقت السؤال عن المسؤول عن ذلك. إنه وقت تدارك ما يمكن تداركه، ولا شك أن البلدين يمتلكان من الأوراق ما يمكن استعماله ديبلوماسياً لاحتواء الاحتمالات السيئة. أي خيار عسكري لا بد أن يفضي إلى تداعيات، وتفاعلات، أشد هولاً بكثير من تداعيات وتفاعلات الأحداث الأخيرة.
نتنياهو، وقد غرق في الدم لا يزال على شبقه التوراتي في تقيؤ الدم...
لبنان وسوريا، وسط هذه الأمواج المتلاطمة، في ضياع. لا أحد يمكنه أن يتكهن بمآل البلدين إذا ما أخذنا بالاعتبار الكلام الإسرائيلي، وحتى بمآل بلدان أخرى. حتى في واشنطن هناك من يرى أن هذه هي اللحظة المثالية لإعادة صياغة بعض الخرائط، وبعض المعادلات، حتى إذا ما ظهرت "إسرائيل الكبرى"، انتظم "المسار الإلهي" للمنطقة.
هذا هو رأي الحاخام الأميركي شمولي بوتيك الذي، وبحسب مجلة "نيوزويك"، بقي لثلاث سنوات الحاخام الأكثر تأثيراً بين الحاخامات الخمسين في الولايات المتحدة.
ندرك أين هي إيران الآن، بين الكماشة الديبلوماسية والكماشة العسكرية، الآن وقد فتحت البوابة الديبلوماسية، ما زال نتنياهو يوحي بأن بوابة الجحيم مفتوحة، أيضاً، على مصراعيها.
ندرك أيضاً مدى الهاجس السعودي من الاحتمالات التي تهدد أكثر من بلد عربي حتى في وجوده، انطلاقاً من المشهد الفلسطيني الذي يزداد مأسوية يوماً بعد يوم، لنقول أن تل أبيب لا بد أن تسعى بشتى الطرق لقطع الطريق على أي تعاون استراتيجي بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلاميةِ.
المسألة الآن بمدى إتقان الدور السعودي (وهو الأشد تأثيراً إقليمياً ودولياً) والدور الإيراني على المسرح الديبلوماسي، خصوصاً وأن الأميركيين يعلمون ما هي انعكاسات التفاهم بين الرياض وطهران. المهم ألّا نفاجأ بلعبة الأشباح في الجزء الخلفي من المسرح، وقد آن الأوان لوضع حد لذلك التيه.
قبيل إعلان دافيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل، قال "ها أن عصا يهوه أنقذتنا، أخيراً، من التيه. أي عصا تنقذ الآخرين، ونحن منهم، من التيه...؟!