د. علي دَربَج - خاص الأفضل نيوز
لطالما شكَّلت الطائراتُ المُسيّرةُ معضلةً استراتيجيّةً خلالَ الصراعاتِ العسكريّةِ في العقدِ الأخيرِ من القرنِ الحالي. فهي تُعتبَر سلاحًا فعّالًا ومؤثِّرًا، خصوصًا في الحربِ اللامتكافئة، تستخدمُه الجيوشُ النظاميّةُ، إضافةً إلى الجماعاتِ والحركاتِ والمنظّماتِ غيرِ الرسميّةِ الشبهِ عسكريّة، نظرًا لسهولةِ استعمالِها، فضلًا عن انخفاضِ تكاليفِها الماليّة، أمّا الأهمُّ، فهو قدرتُها الفائقةُ على المناورةِ والإفلاتِ من أحدثِ الأنظمةِ الراداريّةِ فائقةِ التطوّر، والأمثلةُ الحديثةُ على هذا الأمرِ تطولُ.
لكن مهلًا، يبدو أنّ العدَّ العكسيَّ للعصرِ الذهبيِّ لهذا النوعِ من السلاحِ الذي أقلقَ أعتى قادةِ جيوشِ العالم، بمن فيهم إسرائيلُ والولاياتُ المتحدةُ، قد بدأ، مع إزاحةِ الصينِ العامَ الماضي الستارَ عن آخرِ إنجازاتِها من أنظمةِ الأسلحةِ الإلكترونيّةِ المُذهلة، المُخصَّصةِ للقضاءِ على الطائراتِ بدونِ طيّار.
وما هي الأسلحةُ الصينيّةُ الدقيقةُ المُضادّةُ للطائراتِ المُسيّرة؟
عمليًّا، حقّقت بكين إنجازًا جديدًا في مجالِ صناعةِ تكنولوجيا الموجاتِ الدقيقةِ عاليةِ الطاقة (HPM)، أو ما يُعرَف اصطلاحًا بالميكروويف. ففي معرضِ "تشوهاي" الجوّي، الذي نُظِّم في نوفمبر 2024 – وهو يُقام كلَّ عامين ويُمثِّل منصّةً رئيسيّةً لعرضِ التقنيّاتِ الحديثةِ في صناعةِ الطيرانِ والفضاءِ – عرضَ الجيشُ الصينيُّ ما لا يقلُّ عن ثلاثةِ أسلحةٍ أرضيّةٍ جديدةٍ من نوع HPM.
شملت هذه الأنظمةُ – بحسبِ مكتبِ الدراساتِ العسكريّةِ الخارجيّة – نماذجَ جديدةً لأسلحةِ الميكروويف "عاليةِ الطاقة" من طرازَي "هوريكان 2000"، و"هوريكان 3000"، المُصمَّمَين حديثًا لمُكافحةِ الطائراتِ بدونِ طيّار.
أمّا النظامُ الثالثُ فكان عبارةً عن سلاحِ دفاعٍ جوّيٍّ عالي الأداء من طراز "FK-4000"، وهو منصّةٌ مُضادّةٌ للطائراتِ بدونِ طيّار، قادرةٌ على شنِّ هجماتٍ دقيقةٍ من نقطةٍ واحدة، إضافةً إلى قدرتِه على اعتراضِ أسرابِ الطائراتِ بدونِ طيّار، وفقًا لمُصمِّمِها، شركةِ "علوم وتكنولوجيا الفضاء الصينيّة" (CASC)، التي كشفت عن هذه المُنجزات.
الصعودُ الصينيُّ التاريخيُّ في مجالِ تطويرِ الصناعاتِ العسكريّةِ الدقيقة
في الواقع، يعود اهتمامُ بكين بأسلحةِ النبضاتِ الكهرومغناطيسيّة (EMP) إلى حقبةِ الحربِ الباردة. آنذاك، كشفت التجاربُ النوويّةُ الأميركيّةُ والسوفييتيّةُ في ستينيّاتِ القرنِ الماضي، عن أنّ التفجيراتِ النوويّةَ على ارتفاعاتٍ عالية تُنتج نبضاتٍ كهرومغناطيسيّةً تُعطِّل أو تُدمِّر الأجهزةَ والأنظمةَ الإلكترونيّة.
لاحقًا، وبعد هذه الاختبارات، سارعَ استراتيجيّو الجيشِ الصينيّ إلى دمجِ هذه الأسلحةِ النوويّةِ ذاتِ النبضاتِ الكهرومغناطيسيّةِ عاليةِ الطاقة، في نَهجِهم الأوسعِ نطاقًا في مجالِ المعلوماتِ والحربِ السيبرانيّة (والكلامُ هنا يعود لورقةٍ بحثيّةٍ صينيّةٍ عن علمِ الاستراتيجيّةِ العسكريّة، صادرةٍ في العام 2020).
أكثرَ من ذلك، نظرَ هؤلاء الخبراءُ إلى هذه الأسلحةِ باعتبارِها قدرةً غيرَ متكافئةٍ فعّالة، مُصمَّمةً لتحقيقِ التوازنِ ضدَّ خصومٍ مُتفوّقين تقنيًّا، كالولاياتِ المتحدةِ التي تعتمدُ على منظوماتٍ إلكترونيّةٍ مُترابطةٍ بشكلٍ مُتزايدٍ لتشغيلِ أسلحتِها ومُعدّاتِها الاتّصاليّة.
ما تجدر معرفتُه في هذا السياق، أنّ الصين تُهيمن الآن على أبحاثِ إدارةِ الطاقةِ عاليةِ الأداء عالميًّا. وتبعا لذلك، قدّر تقريرٌ صادرٌ عن "مؤسّسة راند" (RAND) أنّه اعتبارًا من عام 2022، سُجِّلت 90٪ من جميعِ براءاتِ الاختراعِ الجديدةِ المُتعلّقةِ بإدارةِ الطاقةِ عاليةِ الأداء عالميًّا لباحثين ومنظّماتٍ تابعةٍ لجمهوريّةِ الصينِ الشعبيّة.
علاوة على ذلك، ووفقًا لدراسةٍ نشرتها "جامعة العلوم والتكنولوجيا الإلكترونيّة في الصين"، يُمكن لبرنامج يُدعى "Yaoguang" إجراءُ عمليّاتِ مُحاكاةٍ كاملةٍ لأنماطِ الإشعاعِ ثلاثيّةِ الأبعاد، في 12 دقيقةً فقط، مُتفوّقًا بشكلٍ كبيرٍ على الأدواتِ الأميركيّةِ المُشابهةِ في الكفاءةِ الحسابيّة.
مميّزاتُ الأسلحةِ الميكرويّةِ عاليةِ الطاقة HPM وأدوارُها المُستقبليّة
في الواقع، يُبرز الاستثمارُ المُتزايدُ في تقنيّةِ الأسلحةِ الدقيقةِ عاليةِ الأداء (HPM) التوجُّهَ الاستراتيجيَّ الحديث، للجيشِ الصينيِّ للتركيزِ على القدراتِ غيرِ المتكافئة.
وبصفتِها سلاحًا غيرَ متكافئٍ، قادرًا على تعطيلِ الأنظمةِ الإلكترونيّةِ للعدوِّ بسرعة، تستهدفُ الأسلحةُ الدقيقةُ عاليةُ الأداء (HPM) نقاط الاتصال الأساسية والحيوية التي تربطُ الجيوشَ المُتقدّمةَ تقنيًّا، ما يجعلُها سلاحًا حاسمًا في النزاعاتِ المستقبليّة.
عُرِضت منظوماتُ HPM الجديدةُ من طراز "هوريكان 2000"، "هوريكان 3000"، و"إف كاي-4000"، التي كُشِف عنها في معرض "تشوهاي" الجوّي الأخير، على شاحناتٍ مُتحرّكة. تتميّزُ نماذجُ "هوريكان" بقدرتِها على الدورانِ السريعِ ومهاجمةِ الأهدافِ الجويّةِ فوقَها، ويُقال إنّها قادرةٌ على تعطيلِ مئاتِ الطائراتِ المُسيّرةِ خلالَ فترةٍ قصيرة، بمدىً فعّالٍ يُقدَّر بين 2 و3 كيلومترات (استنادًا لمكتبِ الدراساتِ العسكريّةِ الأجنبيّة). أمّا تفاصيلُ قدراتِ منظومةِ "إف كاي-4000" فلا تزالُ محدودةً.
ليس هذا فحسب، تستندُ هذه المنظوماتُ الجديدةُ إلى الجهازِ الذي طوَّرتْه "جامعةُ جنوبِ شرقِ الصين" في عام 2023، وهو جهازٌ على شكلِ خليّةِ نحل، قادرٌ على إطلاقِ عدّةِ حِزَمِ نبضاتٍ كهرومغناطيسيّةٍ (EMP) نحو أهدافٍ مُتعدّدةٍ في آنٍ واحد.
دمجُ أسلحةِ الميكروويفِ بالصواريخِ الفَرطِ صوتيّة
في الحقيقة، يحتفظُ "جيشُ التحريرِ الشعبيِّ الصينيِّ" بترسانةٍ كبيرةٍ من الصواريخِ الجوّالةِ والصواريخِ الفَرطِ صوتيّة، والتي يُمكن أن تُزوَّد مستقبَلًا بأسلحةٍ ميكرويّةٍ عاليةِ الطاقة (HPM)، وذلك على غرارِ النُّظُمِ المُستخدمةِ في الترسانةِ الأميركيّة. وتُعَدُّ هذه الصواريخُ مثاليّةً لتنفيذِ الضرباتِ الأولى، نظرًا لصعوبةِ رصدِها وارتفاعِ نسبةِ نجاتِها.
ورغم عدمِ معرفةِ الحجمِ الدقيقِ للترسانةِ الصينيّةِ من الصواريخِ الجوّالة، إلّا أنّ تقريرًا لوزارةِ الدفاعِ الأميركيّةِ صدرَ في عام 2010 قدّرَ عددَ صواريخِ "HN-2" العاملةِ في الجيشِ الصينيِّ بين 200 و500 صاروخ.
ووفقًا لـ"مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة"، كشفت الصينُ في العام 2019، عن منظومتِها الجديدةِ من الصواريخِ الانزلاقيّةِ الفَرطِ صوتيّة "DF-17" متوسّطةِ المدى.
ويتميّزُ هذا الصاروخُ بسرعتِه العاليةِ وقدرتِه على المناورةِ أثناءَ اقترابِه من الهدف، ما يُصعِّب من عملِ أنظمةِ الدفاعِ المُضادّ.
الأكثرُ أهميّةً في هذا المجال، أنّه يُمكنُ للجيشِ الصينيِّ أن يُركِّبَ أسلحتَه الميكرويّةَ عاليةَ الطاقة (HPM) على صواريخِ "HN-2" الجوّالةِ أو صواريخِ "DF-17" الفَرطِ صوتيّة، على غرارِ مشروعِ الجيشِ الأميركيِّ المعروفِ باسم CHAMP (مشروعِ الصواريخِ المُتقدّمةِ المُضادّةِ للإلكترونيّات عبر HPM)، وهو نظامٌ يُزوَّدُ صاروخَ "AGM-86" الجوّالَ بجهازِ HPM قادرٍ على مهاجمةِ سبعةِ أهدافٍ مختلفةٍ خلالَ أقلَّ من ساعةٍ واحدة.
في المحصّلة:
إنّ تطويرَ الصينِ لأسلحةِ الميكروويفِ عاليةِ الدقّة HPM جوّيّةً وبحريّة، يُشيرُ إلى امتلاكها قدراتٍ هجوميّةٍ مُتناميةٍ في مجالِ النبضاتِ الكهرومغناطيسيّة (EMP)، ما يُهدِّدُ بوضوحٍ أنظمةَ القيادةِ والسيطرةِ والاستخباراتِ والمراقبةِ والاستطلاع (C4ISR) والبُنى التحتيّةَ الحيويّة لخصومها، إضافةً إلى أنّه يُبشِّرُ ببدايةِ نهايةِ أُسطورةِ الدرونز.