عبد الله قمح - خاصّ الأفضل نيوز
مرة أخرى، يجد لبنان نفسه محيداً إلا من لعب المباريات على أراضيه. يتجلى في ما بات يُعرف بـ”لقاء الرياض”، الذي تكرّس فيه مسار تقاربي بين واشنطن ودمشق، من دون أي حضور لبيروت، رغم المحاولات السعودية لإشراكها، بحسب ما تشير إليه مصادر دبلوماسية في العاصمة اللبنانية.
تقول هذه المصادر إن السعودية سعت في الكواليس لتحويل اللقاء الثلاثي بينها وبين سوريا والولايات المتحدة إلى لقاء رباعي يضم لبنان. غير أن الموقف الأميركي بدا واضحًا: لا مشاركة لبنانية الآن، ولا مكان للبنان على طاولة التفاهمات الكبرى، مفضلة تجنيب الدعوة، حيث سرعان ما خرجت من التداول.
ويمكن اعتبار الخطوة الأميركية تندرج من ضمن برنامج "تنسيق التطبيع" بين سوريا وإسرائيل.
وبالتالي تفهم واشنطن أن بيروت غير موضوعة ضمن هذا المسار بهذه الطريقة الواضحة الآن، إنما يرون أنه من الضروري "تحضير لبنان" لهذا المسار –وهو السيء في الموضوع-، بما يعني أن لبنان، وخلافاً لكل ما يقال، غير موضوع على أجندة التطبيع في هذه الفترة.
سوريا تدخل من بوابة التطبيع… ولبنان يراوح مكانه
مفارقة المشهد أن سوريا، التي لطالما قُدّمت كعقبة أمام التسويات الإقليمية، دخلت المسار التطبيعي بخطوات محسوبة، عبر تمرير رسائل وصمتٍ مدروس تجاه الاحتلال الإسرائيلي لأراضيها، والسماح بتقليص حضور المقاومة الفلسطينية، بل وتقديم أوراق اعتماد على مراحل، مقابل إعادة تعويم النظام سياسيًا وإقليميًا.
في المقابل، ما زال لبنان غارقًا في أزماته الداخلية، بدءًا من جدل السلاح، مرورًا بعجز السلطة السياسية، وصولًا إلى انكشافه التام أمام الضغوط الإقليمية والدولية.
ويقال إن لبنان محيد الآن، لكن لن يطول الأمر قبل أن يتم إدخاله في "الشبكة".
ويقال بأن تحييد لبنان، جارٍ، ببساطة لكونه في وضع غير مهيئ لسلوك البرنامج المعد للمنطقة. ويمكن العثور على مفردات في هذا السياق في مواقف نائبة المبعوث الأميركي للمنطقة، مورغان أورتاغوس، التي وحين أشارت إلى دور الرئيس السوري أحمد الشرع في التقارب مع إسرائيل ومحاولة تسويقه كفكرة في لبنان، كانت في الأساس تلمح إلى مجموعة من الموجبات التي على لبنان حتمية تنفيذها قبل الدخول في أي مسار، فيما بعض الخبثاء يشيرون بأن كلام أورتاغوس، يحمل على تهديدات مبطنة من أن الولايات المتحدة –عبر إسرائيل- هي التي ستتولى تحقيق هذه المتطلبات.
عمليًّا، رئيس الجمهورية، جوزاف عون، يصرّ في مواقفه المعلنة على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة بعد 27 أيلول 2024، كشرط لفتح أي حوار. و”حزب الله”، بقوته وامتداداته، لا يزال لاعبًا رئيسيًّا لا يمكن تجاوزه، كما أثبتت الانتخابات البلدية الأخيرة، التي أكدت متانة حضوره في بيئته رغم كل المتغيرات.
الرياض تمسك بوحدة الملفين السوري واللبناني
في ظل هذا الواقع، يبدو أن السعودية قد حسمت موقعها كلاعب مركزي في إدارة الملفين السوري واللبناني، وإنْ بدرجات متفاوتة. لكنها، بعكس ما قد يُظن، لا تريد أن تديرهما معًا في توقيت واحد. فالأولوية هي لسوريا التي أبدت مرونة واضحة، أما لبنان فمطوّق بواقعه الداخلي وبممانعة حقيقية لأي مسار تطبيعي، ما يجعله خيارًا مؤجلًا حتى إشعار آخر.
ولعل محاولة الرياض نسج نوع من الروحية الائتلافية بين دمشق وبيروت، كما تجلى في اتفاقية “حسن النوايا الحدودية” التي رعتها قبل أكثر من شهر، لم تكن سوى محاولة لتطويع لبنان أو إقناعه بسلوك مسار مشابه.
لكن الواقع السياسي اللبناني، المنقسم والمشلول، لا يسمح بذلك.
سؤال أبعد من التطبيع
السؤال الحقيقي ليس فقط: لماذا لم يُدع لبنان إلى لقاء الرياض؟ بل لماذا بات يُنظر إليه إقليميًا كبلد خارج الحسابات الجدية؟
الجواب لا يكمن فقط في غياب الرغبة اللبنانية بالتطبيع، بل في فقدان القرار السيادي، وتشرذم السلطة، وغياب أي رؤية مركزية تقود الموقف الرسمي.
في هذا السياق، يصبح لبنان مرشّحًا ليكون من آخر الدول العربية التي تدخل في أي مسار تفاوضي أو تسووي مع إسرائيل، وإن حصل ذلك، فسيكون وفق منطق الأمر الواقع، وليس عن قناعة ذاتية. وهذا ما يجعله عرضة لفقدان أي مكاسب تسوق بعض الدول أنها ستكون متوفرة، لأنه ببساطة سيكون ذاهبًا إلى هذا الخيار مكرهًا، وليس بصفقة وطنية نابعة من قرار سيادي واضح.
“هدنة باردة”
من جهتها، لا ترى واشنطن أن الوقت مناسب لفرض خيار التطبيع على لبنان، خوفًا من انفجار داخلي يعيد خلط الأوراق. ولذا، تسعى إلى دفع بيروت نحو “هدنة طويلة الأمد” مع إسرائيل، تستند جزئيًّا إلى اتفاق الهدنة لعام 1949، من دون أي اتفاق سياسي جديد أو اعتراف متبادل. لكن حتى هذه الهدنة تبدو بعيدة المنال، ما دامت التركيبة اللبنانية على ما هي عليه.