إلياس المرّ - خاصّ الأفضل نيوز
شكّل فوز ميرنا المرّ برئاسة اتحاد بلديات المتن محطة سياسية مفصلية في المشهد المحلي اللبناني، وتحديدًا في المتن، أحد أبرز معاقل الصراع التقليدي بين القوى الحزبية والعائلات السياسية التاريخية. فعلى الرغم من الزخم الإعلامي والسياسي الذي يحمله حزب الكتائب اللبناني في هذه المنطقة، تمكّنت المرّ، المدعومة من إرث عائلي وبلدي عميق، من انتزاع هذا الموقع، موجّهة ضربة سياسية ومعنوية لهذا الحزب العريق. فما هي الخلفيات السياسية والنفسية التي مكّنتها من ذلك؟
أولًا: البُعد السياسي – الصراع بين النمط الحزبي والنفوذ التقليدي
تندرج شخصية ميرنا المر ضمن العائلات السياسية المتجذّرة في المتن، وتحديدًا إرث الراحل ميشال المر، أحد أبرز أعمدة الإدارة المحلية والتمثيل النيابي على مدى عقود، أحد أركان الإنماء والدعم البلدي على مستوى لبنان، هذا الإرث السياسي منحها شبكة واسعة من العلاقات داخل البلديات، فضلًا عن صورة ذهنية مستقرة وموثوقة لدى العديد من رؤساء المجالس البلدية.
في المقابل، فإن حزب الكتائب – رغم تاريخه ومكانته في المتن – لم يتمكن من تأطير نفوذه داخل المجالس البلدية بشكل فعّال. فبينما يتحرك الكتائب بخطاب سيادي – معارض، بعيد عن الواقع الإنمائي اليومي، نجحت المر في طرح نفسها كامتداد لمسار بلدي عملي إنمائيٍّ وفعّال، يُعنى بالمياه، والكهرباء، والنفايات، والخدمات، ما يلامس أولويات المجالس المحلية أكثر من الخطابات السياسية العامة.
كما أن التوقيت السياسي، له دلالاته، إذ اعتبرت الكتائب أن الظرف الآني والتصاقها بالعهد، سيعطيها أفضلية في استعمال هذا الاصطفاف على حساب المر، إلاّ أن نهج الاعتدال والوقوف الدائم إلى جانب العهد والدولة الذي تنتهجه سياسة المر عموماً، ووقوف العهد على الحياد وعدم تدخّله في الاستحقاقات، بالرغم من محاولة البعض كسر هذه القاعدة، في الليلة الأخيرة، منعت الكتائب من استعمال هذه الورقة بشكل فاعلٍ.
ثانيًا: البُعد السيكولوجي – الكاريزما والرمزية والثقة
سيكولوجيًا، قدّمت ميرنا المر نفسها كرائدة بلدية قادرة على الاستماع والتواصل وحلّ المشكلات، مدعومة بتجربة عائلية طويلة في الحكم المحلي.
هذه الصورة لعبت دورًا حاسمًا في كسب تأييد رؤساء البلديات، الذين يميلون في العادة إلى من يمنحهم استقرارًا إداريًا ودعمًا تقنيًا، لا إلى من يقدّم شعارات سياسية قد تُثير الانقسامات.
المرأة في العمل البلدي باتت تُشكّل في وعي الناخبين المحليين صورة جديدة للقوة الناعمة والمقاربة غير الصدامية، وهو ما قد تكون المر استثمرته بشكل فعّال. كذلك، ساعدها الخطاب البراغماتي والابتعاد عن الاصطفافات الحادة على كسب تأييد جهات من أطياف سياسية متعددة، في حين بقي الخطاب الكتائبي محافظًا جامداً وأقل مرونة.
ثالثًا: الذاكرة الجماعية المتنية – رفض العودة إلى زمن الهيمنة الحزبية
يتغذى هذا التحول أيضًا من الذاكرة الجماعية لأهالي المتن، الذين خبروا في محطات متعددة من تاريخ لبنان ما تعنيه الهيمنة الحزبية على المؤسسات. إن رفض البلديات المتنية – بمعظمها – للعودة إلى زمن “الدويلة داخل الدولة”، حيث تحل الأقسام الحزبية مكان مؤسسات الدولة الشرعية، ليس مجرد موقف سياسي، بل هو موقف سيادي شعبي محلي ينبع من تجربة مريرة مع الفراغ المؤسسي والزبائنية. فالمتن، كمجتمع بلدي عريق، يرفض أن تُستبدل مصلحة المواطن بلون سياسي، أو أن يُحكم بالولاء الحزبي لا بالكفاءة.
فوز ميرنا المر لا يُقرأ فقط كنتيجة معاصرة لتحالفات آنية، بل كتعبير عن رغبة عميقة لدى البلديات في الحفاظ على استقلالها عن منطق التبعية الحزبية، وإعادة الاعتبار لدور الدولة عبر العمل البلدي الحقيقي.
وليس آخراً، يمثّل فوز ميرنا المر أكثر من مجرد انتصار فردي في معركة بلدية؛ بل هو تجسيد لتحوّل عميق في قواعد الاشتباك السياسي المحلي، حيث تُهزم الأحزاب الكبرى أمام تحالفات تقليدية مدعومة بثقة الناس وخبرة الواقع. لقد نجحت المر في الاستفادة الإرث العائلي الزاهر، والعلاقات الشخصية، والحسّ الإداري الواقعي، لتؤكّد أن البلديات لا تُحكم بالشعارات، بل بالأفعال.
في المقابل، على حزب الكتائب أن يعيد النظر في استراتيجيته البلدية وحتى السياسيّة، وخصوصاً الاجتماعية، ويدرك أن، الشعارات، ودماء الشهداء لوحدها، لم تعد كافية لبناء نهج سياسي، وأن ينتقل من منبر الخطابة إلى ميدان الإنجاز.