د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
منذ اللحظة التي قام فيها البشرُ الأوائلُ بنَحتِ القواربِ من جذوع الأشجارِ لعبور الأنهارِ والمحيطات، كان الدافعُ الرئيسيُّ لخطواتهم البدائية تلك هو السيطرةُ على الطبيعةِ وتجاوزُ حدودها. والمفارقةُ أنَّ نفسَ هذه الدوافعَ والطموحاتِ تتركّزانِ الآن على الفضاءِ الذي أصبحَ جزءًا لا يتجزّأُ من الجغرافيا السياسية لكلّ من الولايات المتحدة والصين، اللتان تتنافسان على نشرِ أساطيلٍ من الأقمار الصناعية المدنية والعسكرية فيه. أما الأهدافُ فتتوزّعُ ما بينَ التجاريةِ والعسكريةِ، وتكريسِ التفوّقِ والسيطرةِ والنفوذِ.
أمازون وستارلينك تنافس بالصواريخ.. وغموض بالاهداف
في الواقع، حقّقت الولايات المتحدةُ الشهر الماضي خطواتٍ طموحةً في هذا المجال، عندما أُطلِقَ صاروخُ أطلس V التابعُ لشركة أمازون من كيب كانافيرال في ولاية فلوريدا، حاملًا أول 27 قمرًا صناعيًا ضمن خطةِ الشركة لإرسال أكثر من 3,000 قمرٍ صناعي آخر
.
شكّلت هذه الخطوةُ بدايةَ مشروعِ كويبر (Project Kuiper)، والذي يهدف إلى توسيعِ الوصولِ إلى الإنترنت لحوالي ثلاثة مليارات إنسانٍ حول العالم ممن لا تتوفّر لديهم الخدمةُ حاليًا.
ورغم أنَّ مشروع كويبر يُعدّ طموحًا وملهمًا، إلا أن أمازون ليست الشركة الخاصة الوحيدة التي تسعى إلى غزو الفضاء. فهي عمليًا، تحاول اللحاقُ بمنافستها الرئيسية، سبيس إكس (SpaceX) التابعة لرائد الأعمال إيلون ماسك، وفرعها الخاص بالأقمار الصناعية، ستارلينك (Starlink)، التي تملك بالفعل أكثر من 7,000 قمرٍ صناعي صغير بحجم سيارة في مدار الأرض، والأهم أنها تخطط لإضافة نحو 30,000 قمرٍ صناعي إضافي.
ضع في اعتبارك أن هذه المنافسةَ تثير جدلاً واسعًا بين اثنين من أغنى رجال الأعمال في العالم — رئيس شركة أمازون جيف بيزوس ومؤسس "سبيس إكس" إيلون ماسك — لا سيما بشأن دوافعهما الحقيقية. فمن الواضح أن الأقمارَ الصناعية للاتصالات أصبحت قطاعًا مربحًا للغاية. إذ تمتلك "ستارلينك" التابعة لماسك أكثر من خمسة ملايين مشترك، وتُدرّ عليها عائداتٌ سنوية متكررة تُقدّر بنحو 6.5 مليارات دولار.
أما بيزوس، فقد ضخّ استثمارًا ضخمًا بقيمة 20 مليار دولار (وفقًا لصحيفة الإيكونوميست) عبر مشروع "كويبر" الخاص بأمازون، سعيًا للحصول على حصةٍ من هذا السوق المتنامي.
لكن مهلاً، من السذاجة النظر إلى الأمر كأنه مجرّد تنافسٍ استعراضي بين مليارديرين يتباهيان بمن يملك أكبر صاروخ (وهو ما يتفوّق فيه ماسك حاليًا دون منازع). فالمسألة تتجاوز الأرباح والغرور الشخصي. فاستكشاف الفضاء قد يكون فرصةً تجاريةً، نعم، غير أنه بات يُشكل أيضًا الحدود الجديدة للصراع الجيوسياسي مع الصين.
وللدلالة على ذلك، يكفي أن ندقق في عدد الدول التي تسعى جاهدةً لتثبيت أقدامها في الفضاء. إذ تدور اليوم أقمار صناعية من 91 دولة حول الأرض، مقارنةً بـ14 قمرًا فقط في مطلع القرن الحالي.
أكثر من ذلك، فعندما أُطلقت أولى أقمار ستارلينك في مايو 2019، لم يكن هناك سوى 2,000 قمر صناعي نشط يدور حول الأرض. أما الآن، فقد تجاوز العدد 12,000، وهو رقم من المتوقع أن يزداد بشكل كبير مع إرسال الصين لكوكبة تشيانفان (ألف شراع) العملاقة، التي أطلقت أولى أقمارها الصناعية إلى مدارها مطلع العام الماضي.
الجديرُ بالذكر، أن لدى الصين حاليًا 197 قمرًا صناعيًا قيد التشغيل، وتخطط لإطلاق 14,000 بحلول عام 2030. (الأرقام هنا بحسب موقع شركة كونغسبيرغ نانوأفيونيكس المتخصصة بصناعة الأقمار الصناعية).
وماذا عن الصين؟
في الواقع، كانت وتيرة صعود الصين كقوة فضائية مذهلة بحق. فقد أرسلت بكين أول رائد فضاء إلى المدار في عام 2003، أي بعد أكثر من أربعة عقود على إنجاز كلٍّ من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في هذا المجال.
وفي عام 2021، حقّقت الصين إنجازًا بارزًا من خلال بعثة "تيانون-1" (Tianwen-1) – أي "الأسئلة السماوية" – التي أنزلت مركبة جوّالة على سطح المريخ وبدأت في استكشافه. ثم في مايو/ أيار 2024، أضحت الصين أول دولة في العالم تعيد عينات من "الجهة البعيدة" للقمر، وهو نجاح غير مسبوق علميًا وتقنيًا.
علاوة على ذلك، ورغم دخولها المتأخر في سباق الفضاء، إلا أن الصين تتصدر بالفعل البنية التحتية للاتصالات الفضائية. وبناءً على ذلك، فإن هذه التطورات الأخيرة قد تُحدث تغييرًا جذريًا في كيفية وصول العالم إلى الإنترنت عالي السرعة ومعالجة صور الأقمار الصناعية.
سباق التسلح الفضائي بين أمريكا والصين
عمليًا، لا يقتصر سباق الفضاء الجديد على تحسين سرعة الإنترنت في المناطق الأقل تطورًا. فالولايات المتحدة والصين وروسيا (وعلى ذمة صحيفة The Times ) ترى أن ما يُعرف بـ"الأصول الفضائية" للخصوم يمكن أن تُستخدم في مراقبة تحركات القوات في حال اندلاع حرب كبرى.
وتبعًا لذلك، وصف أحد الضباط الأمريكيين هو برتبة كولونيل، شبكة الأقمار الصناعية الصينية بأنها "شبكة قتل" (kill web)، إذ تتيح لبكين تحديد أهداف محتملة لصواريخها الفرط صوتية. ونتيجة لذلك، تعمل الولايات المتحدة بدورها على تطوير "أسلحة فضائية" تهدف إلى حماية الأقمار الصناعية الغربية في حال تعرّضها لهجوم.
صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال تتصدّر هذا السباق في الوقت الراهن، سواء من حيث الخبرة أو التكنولوجيا. لكنّ الفوز النهائي لن يُحسم بالعبقرية والقدرات التقنية فقط، بل سيعتمد أولًا وأخيرًا على أيّ دولة تمتلك القدرة على الصمود، والثقة بالنفس، والرؤية الكبرى التي تُمكّنها من الاستمرار حتى النهاية.
في المحصّلة:
خلال حقبة الحرب الباردة فازت أمريكا في سباق الفضاء، رغم أنها عانت من تمزق بسبب حرب فيتنام. ومع ذلك، وكما أشار رجل الدبلوماسية الأمريكية البارز هنري كيسنجر، ربما كانت أمريكا منقسمة في تلك الفترة، لكن المصلحة الوطنية لم تكن "في حد ذاتها موضع نقاش".
أما اليوم، فهذا الأمر موضع شك كبير. تفتقر أمريكا بشكل متزايد إلى أي حسٍّ وطنيٍّ مشترك. حيث تدور حرب ثقافية ضد الآباء المؤسسين، والمعالم الوطنية، والحضارة الغربية بشكل عام. لذا سيكون من الصعب للغاية التنافس بجدية في سباق الفضاء اليوم.