د.رائد المصري - خاصّ الأفضل نيوز
تكاد تكون المرة الأولى منذ نشأة الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، التي تظهر فيها وهي تكفكف دموعها وتجمع حطام الضربات الصاروخية، بعد أن أحدثت دمارا كبيراً في عاصمتها الاقتصادية والسياسية والأمنية، وبعد أن تنكَّرت لكل مبادرات السلام، واعتدت على الشعب الفلسطيني والعربي عموماً، وعلى لبنان وشعبه، وسوريا ومصر والأردن، وافتعلت المجازر الوحشية، وتوسَّعت بنازيَّتها لضرب إيران، لكنها لم تكن تعرف أن هذه الحرب التي صنعتها بيديها، ستتسبب أقلّه في إحداث انقسام سياسي وشعبي حاد في الداخل الإسرائيلي، تمهيداً لإسقاط نتنياهو وحكومته اليمينية، بعد أن طال انتظار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وهو يقف على حافة النهر بانتظار التقاط الجثث المرمية فيه..
الوسيلة الوحيدة التي يملكها نتنياهو، هي التخاطب عبر السيطرة والإذلال للتعامل مع العرب، لكن لأول مرة يشعر أن مطار بن غوريون يتوقف عن العمل وتتعطل ملاحته، وتنقل الطائرات المدنية إلى مطار اليونان وقبرص والولايات المتحدة، ومباني تل أبيب تتعرض للاهتزاز ومعها مشاهد الدمار، على نحو ما هو حاصل في ضاحية بيروت الجنوبية وجنوب لبنان، أو غزة والضفة الغربية، كذلك تتعرض وزارة الحرب الإسرائيلية للاستهداف العسكري مع مؤسساتها المنتجة لآليات القتل، والإستخبارات، والحرب السيبرانية والذكاء الإصطناعي وغيرها، فحين يجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغَّر للتقييم أو لاتخاذ قرارات مصيرية في ملجأ تحت الأرض مع أركان وقادة الأجهزة الأمنية، فتلك قصة كبيرة ومهمة من قصص حكايا الحروب الصاعقة، التي جنتها تل أبيب على نفسها، فهي تعيش أهوال الحرب وويلات الدمار على مدى يقرب من السنتين..
دولة الاحتلال الإسرائيلية حاصرت أطفال غزة وقتلتهم، وجرَّدت شعبها بالقتل والدمار والتجويع والتنكيل، لكنها لم تقدر على إلحاق الهزيمة بحماس وسائر الفصائل المقاتلة، دفاعاً عن غزة والضفة والطامحة إلى إقامة دولة تجمع شتات الشعب الفلسطيني، وتحمي حقوقه كسائر شعوب الأرض، واليوم تقدم نتنياهو لتصفية الملف النووي الإيراني وتغيير النظام، من ضمن أهداف أخرى وضعها في مخيلته الواسعة، لفرض زعامته الجيوسياسية والعسكرية على كامل الشرق الأوسط.
بغض النظر عن مدى وحجم وتأثير الرد الإيراني على هذه الاستباحة الإسرائيلية لسيادة دولة كبرى في الإقليم مثل إيران، فهو يظهر أنه أعاد في الاعتبار ما يتعلق بوضع حدّ أو حدود لهذا الصلف الإسرائيلي وهمجية عدوانه، بقتل الشعوب مجاناً، والدعم اللامحدود من الولايات المتحدة الأميركية، ودول الغرب الأوروبية الناتوية..
اليوم إذا قاربت إسرائيل الواقع السياسي بعجزها عن تطويع إيران، وقضية الملف النووي الايراني صار خارجاً عن إرادة نتنياهو وأسلوبه في معالجته، وإذا تعدَّل ميزان القوى في المنطقة، ولو بشكل طفيف لغير صالح فريق إسرائيل، فإن مرحلة جديدة تبدأ في الشرق الأوسط، تفتح معها الباب أمام تفاهمات جديدة، لن يكون نتنياهو وفريقه القاتل المتطرّف ضمنها، بحسب ما يرى مراقبون كثر.
منذ عام 1979، تحوّل العداء مع إسرائيل إلى أحد أهم المرتكزات في السياسة الإيرانية في الإقليم، من خلال دعم طهران لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، في المقابل عملت إسرائيل وبدعم غربي كبير، على مواجهة وتقويض النفوذ الإيراني في سوريا والعراق واليمن، وضرب بنيته اللوجستية والعسكرية كلما سنحت لها الفرصة بذلك، حتى تدحرج الاشتباك الإيراني _ الإسرائيلي ووصل إلى انفجار كبير، فالحرب التي خيضت بالواسطة لعقود عبر ساحات وسطاء ووكلاء، اندلعت أخيراً بمواجهة مباشرة متجاوزة الخطوط الحمراء، وطرحت أسئلة كبرى حول مستقبل الشرق الأوسط واستقرار الأوضاع السياسية الراهنة، وما كان يتم في الخفاء أو عبر الوسطاء والرسائل المشفرة، بات اليوم في العلن، كالاغتيالات المتبادلة، والهجمات السيبرانية، وضربات الطائرات المسيّرة، وصولاً إلى القصف المتبادل بين الطرفين.
تربَّص نتنياهو، وانتظر الفرصة التي يعتبرها مناسبة في لحظة تاريخية تمر بها منطقة الشرق الأوسط، وتحيَّن الفرصة طوال جولات المفاوضات الأميركية -الإيرانية حول البرنامج النووي الإيراني، والذي حاول إفشالها بشتى الطرق، وبعثرة أوراق التفاوض بكلِّ الأشكال، وشنَّ منذ البدء، حملة تشكيك ضدَّ صدقية النوايا الإيرانية، فانتظر ساعة فشل المفاوضات، ليحاول إصابة أكثر من هدف واحد في هجومه المفاجئ على طهران، مستبقاً انعقاد مؤتمر القمة الدولي لحل الدولتين في ٢٦ الجاري في نيويورك، والذي كان من المقرر أن يحضره العديد من رؤساء الدول والحكومات، فتم الإعلان عن تأجيل قمة نيويورك إلى الخريف المقبل، فبسبب اندلاع هذه الحرب وفي ظل غياب وساطة فاعلة وجدية، وتباعد الحسابات والمقاربات بين واشنطن وطهران، تبقى احتمالات التهدئة صعبة المنال، فلا إيران مستعدة للتراجع عن موقعها كلاعب إقليمي وفي حربها التي فرضها عليها نتنياهو، ولا إسرائيل تقبل بوجود قوة مثل إيران على حدودها، بحجَّة تهديد أمنها الاستراتيجي، وهو تناقض وتباعد كبير وخطير في الأهداف، قد يطيل من عمر هذه المواجهة، ويُدخل المنطقة في حلقة مفرغة من التصعيد المدمّر.
أخيراً، إن المنطقة اليوم على فوهة بركان، بعد بدء الحرب بين إيران وإسرائيل، فإذا توسَّعت بالكامل، ستغيّر وجه الشرق الأوسط، وتفرض وقائع جديدة لا أحد يعرف حدودها ومدياتها، خاصة بعدما تنبَّأ السفير الأميركي في تركيا توم باراك بسقوط خطوط اتفاقية سايكس بيكو المعمول بها بترسيم حدود الدول، أما إذا تمَّ احتواء تداعياتها، فسيبقى جمر الحرب تحت الرماد، بانتظار دورة جديدة من العنف، وفي كلا الحالين، على العالم أن يدرك أن تجاهل أزمات المنطقة، أو العمل على إدارتها عن بُعد واعتبارها هامشية، وفي مقدمتها قضية فلسطين، لم يعد كافيًا، فحين تنفجر التناقضات الإقليمية بألغامها الكامنة تحت التراب، عبر تراكمات تاريخية لمظلومية الشعوب وقهرها، لا يبقى أحد في مأمن من نيرانها.