د. علي دربج - خاصّ الأفضل نيوز
لا يوفر العديد من اللبنانيين، الميسورين منهم وحتى أصحاب الدخل المحدود، أي فرصة إلا ويتباهون فيها بأصناف وأنواع وألوان الطعام التي تحتويها موائدهم — خصوصًا في المناسبات الاجتماعية أو الدينية أو الأفراح وأعياد الميلاد — وهي تزيد في الغالب عن حاجة عائلتهم أو ضيوفهم، محطمين بذلك أرقامًا قياسية في الإسراف والتبذير.
لذلك، وعند رؤيتنا لهذه المشاهد التي تُعرض تكرارًا ومرارًا على وسائل التواصل الاجتماعي، يتبادر إلى أذهاننا سؤال جوهري مفاده: أين تصرف فضلات هذا الطعام؟ وكيف يتم التخلص منها؟
كميات الطعام التي يهدرها العالم
في الحقيقة، تفتقد العديد من الدول، ومنها لبنان، للحلول الناجحة لمشكلة فضلات الطعام.
وتبعًا لذلك، كشفت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) أن ما يصل إلى 31% من إجمالي الأغذية يتم إهدارها، وهو ما يكفي لإطعام أكثر من مليار جائع. كما تشير التقديرات إلى أن هدر الطعام يسبب ما بين 6 إلى 8 بالمائة من الانبعاثات العالمية.
علاوة على ذلك، ينتج الشخص العادي حوالي 265 رطلاً (أي 120.2 كيلوغرام) من بقايا الطعام كل عام، وفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة التي حللتها منظمة "عالمنا في البيانات".
كذلك، ينتج الشخص الأمريكي الواحد 304 رطلاً (137.7 كيلوغرام)، مقارنة بـ 242 رطلاً (109.8 كيلوغرام) للمواطن الكوري الجنوبي. وفي وقت يتصدر الماليزيون الرسم البياني بـ 573 رطلاً (260.8 كيلوغرام)، ينتج السلوفينيون أدنى مستوى عالمي يبلغ 134 رطلاً (60.8 كيلوغرام).
من هنا، قال جوناثان فولي، المدير التنفيذي لمشروع Project Drawdown، وهي منظمة غير ربحية تعمل على تقييم الحلول المناخية: "إنها واحدة من أكبر وأغبى المشكلات البيئية التي نواجهها اليوم".
التخلص من مخلفات الطعام: مقارنة بين لبنان وكوريا الجنوبية
لا خلاف على أن لبنان بلد العجائب. من منا لم يرَ أو يشاهد كميات من مخلفات الطعام (بأحجام مختلفة) مرمية بمنتهى الخفة والاستهتار في مستوعبات النفايات (العادية منها والصلبة بما فيها الأشياء الحديدية وأثاث المنازل) أو على جوانب الطرقات أو في الأماكن النائية كالجبال أو الوديان، بالرغم من أنها تعدّ من النعم (التي أفاضها الله على خلقه)، ويمكن بالتالي استغلالها والاستفادة منها كما تفعل حاليًّا كوريا الجنوبية.
بالمقابل، تُعدّ كوريا الجنوبية واحدة من الدول القليلة التي لديها نظام وطني لإدارة النفايات الغذائية. ففي حين أن فرنسا جعلت تحويل الأغذية إلى سماد إلزاميًا هذا العام، وفرضت بعض المدن مثل نيويورك قواعد مماثلة، إلا أن هناك أماكن قليلة تضاهي كوريا الجنوبية. فهي تفوقت على الولايات المتحدة، إذ يذهب 60% من نفايات الطعام إلى مدافن النفايات الأمريكية، وفقًا لتقديرات وكالة حماية البيئة لعام 2019، مع تحويل 5% فقط إلى سماد، و15% إلى طاقة.
في البداية، قوبلت سياسات هدر الطعام في كوريا الجنوبية، عندما تم تنفيذها لأول مرة، بمقاومة من الجمهور الذي أُجبر على دفع غرامات ورسوم مقابل بقايا العشاء. لكن الآن، يعتبر سكان البلاد البالغ عددهم 50 مليون نسمة، إعادة تدوير الأغذية جزءًا من حياتهم اليومية.
زد على ذلك، أنه عندما بدأت كوريا الجنوبية في معالجة هذه المشكلة قبل 20 عامًا، كانت تتخلص من 98% من نفاياتها الغذائية.
أما اليوم، فيتم تحويل 98% من مخلفات الطعام إلى أعلاف أو سماد أو طاقة، وفقًا لوزارة البيئة في كوريا الجنوبية. وقد تحقق ذلك عبر حظر سيول دفن بقايا الطعام في الأرض، فضلًا عن إلزامها جميع السكان بفصل نفايات طعامهم عن القمامة، وتشجيعهم على إعادة التدوير.
والأهم أنه تم دفع ثمن هذه الخدمات (أي التخلص من مخلفات الطعام) من خلال الرسوم والغرامات.
ليس هذا فحسب، تحتوي بعض ناطحات السحاب في سيول على صناديق نفايات إلكترونية لقياس وزن مخلفات الطعام. وتقوم السلطات المختصة، بتحصيل الرسوم من السكان الذين يسجلون نفاياتهم عبر بطاقة رقمية شهريًا وفقًا للكمية التي يتخلصون منها. في حين يشتري آخرون أكياس السماد الحكومية بمبلغ لا يتجاوز 10 سنتات، ويتخلصون منها في صناديق القمامة على جانب الطريق. وقد يتم تغريم المخالفين الذين يخلطون طعامهم في سلة المهملات العادية.
أكثر من ذلك، يُعد مركز دايجون للطاقة الحيوية واحدًا من حوالي 300 منشأة تمكن كوريا الجنوبية من إعادة تدوير ما يقرب من 15 ألف طن من نفايات الطعام اليومية، والتي يمكن تحويلها إلى أسمدة، أو إطعامها للماشية، أو تحويلها إلى غاز حيوي، وهو نوع من الطاقة المتجددة.
وتعقيبًا على ذلك، قال جيونج جو هوانج، الرئيس التنفيذي للمصنع، في إشارة إلى مدينة يبلغ عدد سكانها 1.5 مليون نسمة وتقع على بعد ساعتين خارج سيول: "هذا المكان يعتني بنصف إجمالي نفايات الطعام اليومية التي تنتجها مدينة دايجون". وأضاف: "بدون ذلك، كانت معظم الفضلات قد ذهبت إلى الأرض، مما أدى إلى تلويث التربة وتوليد غاز الميثان — وهو غاز دفيئة أسوأ بكثير من ثاني أكسيد الكربون من حيث الاحتباس الحراري على المدى القصير".
بدوره، أكد بارك جيونج أوم، قائد فريق إعادة التدوير في الاتحاد الكوري للحركات البيئية (وهي مجموعة ناشطة) أن "الكوريين الجنوبيين اعتمدوا أسلوب الحياة هذا بدافع الضرورة".
الجدير بالذكر أن خطط التخلص من مخلفات الطعام تعرضت للفشل في تسعينيات القرن الماضي، عندما اشتكى السكان من مدافن النفايات ذات الرائحة الكريهة ولم ترغب الأحياء في استضافة محارق. إذ إن الكثافة السكانية في كوريا الجنوبية — أكثر من 51.7 مليون شخص يعيشون في منطقة بحجم ولاية إنديانا تقريبًا — جعلت من المستحيل بناء مرافق بعيدة عن المناطق السكنية، ولهذا كان الخيار الوحيد المتبقي هو إعادة التدوير.
التحديات التي تواجه كوريا الجنوبية
صحيح أن سيول نجحت في إعادة التدوير، غير أن الحكومة لم تتمكن بعد من إقناع المواطنين بإهدار كميات أقل من الطعام. إذ لم تتغير كمية مخلفات الطعام التي يتم إنتاجها — حوالي 5.5 مليون طن سنويًا — كثيرًا على مدار خمس سنوات، على الرغم من التكلفة والمتاعب التي يضطر السكان إلى مواجهتها في عملية إعادة التدوير.
أما من جهة ثانية، فإن فرز مخلفات الطعام هو عملية معقدة. ففي النظام الكوري الجنوبي، يمكن تحويل البيض والدجاج والبصل إلى سماد، ولكن قشورها وعظامها وجذورها لا يمكن تدويرها.
وأحيانًا تدخل أدوات المائدة الصلبة إلى حاويات نفايات الطعام. وعليه، إذا وصلت كمية كبيرة من البقايا غير المناسبة إلى منشآت إعادة التدوير، فقد تؤدي إلى تعطل الآلات، مما قد يتطلب ما يصل إلى عام من الإصلاحات.
وأمام هذه التحديات، رأت كوريا الجنوبية أن تحويل فضلات الطعام إلى غاز حيوي هو الحل الأكثر عمليًا. لذلك باتت تعتمد بشكل متزايد على مراكز الغاز الحيوي مثل تلك الموجودة في دايجون. فهي تقلل من التلوث والانبعاثات، وتخفف الضغط على المساحة المتضائلة لمدافن النفايات، وتولد الكهرباء والتدفئة.
في المحصّلة، إن الطريقة الأفضل للتخفيف من المشكلة بالكامل هي ببساطة وضع كمية أقل على طبقك. فالحلّ الحقيقي يبدأ من هنا، ومع ذلك يتعمّد بعض اللبنانيين تجاهله والقفز فوقه، لغايات وأهداف نعجز عن فهمها. لذا تبقى القاعدة الرئيسية عند اللبناني "خالف تُعرف".