موقع البناء
نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية تحقيقاً لمراسلَيْالصحيفة في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، أناتولي كورماناييفوإساين هيريرا عن قرية صيد ضربها الانهيار الاقتصادي فيفنزويلا، ثم بدأت المجوهرات تظهر في ظروف غامضة علىشاطئها؛ مما خفَّف من آلام الأزمة الاقتصادية، وبعث الأمل منرحم المشقة والمعاناة.
قرية على أطراف فنزويلا نسيها التاريخ
يستهلّ مراسلا الصحيفة تحقيقهما بوصف المشهد من قرية جواكافي فنزويلا، حيث بدأت اللحظات الأكثر استثنائية في حياة صيادشاب بينما كان يؤدي أمراً عاديّاً تماماً: الذهاب إلى دورة المياه فيالصباح.
وفي أثناء عودته إلى كوخه المسقوف بالقصدير على الساحلالكاريبي لفنزويلا، رأى الصياد، يولمان لاريس، شيئاً يتلألأ علىطول الشاطئ. فدسَّ يده في الرمل وأخرجها حاملةً ميدالية ذهبيةعليها صورة السيدة مريم العذراء.
ويشير التحقيق إلى أنّ قرية جواكا كانت في يوم من الأيام تمثِّلقلب صناعة تجهيز الأسماك في فنزويلا، لكنها أصبحت الآن قريةفقيرة بسبب نقص البنزين، وإغلاق معظم مصانع تعبئة الأسماكالصغيرة. ووسط كلّ هذا البؤس، بدا الاكتشاف القيِّم كأنه معجزة. يقول السيد لاريس، البالغ من العمر 25 عاماً: «لقد ارتعدتفرائصي، وبكيتُ من الفرح. كانت هذه المرة الأولى التي يحدثفيها شيء خاص لي».
الذهب يظهر على شاطئ قريتنا
وعند عودته إلى البيت، أخبر السيد لاريس والد زوجته، وهو أيضاًصياد، بالأمر. وانتشر خبر الاكتشاف بسرعة، وسرعان ما انضمّمعظم سكان القرية، البالغ عددهم ألفي نسمة، إلى عملية بحثمسعورة عن الكنز، ومشَّطوا كلّ شبر على الواجهة البحرية، وحفرواحول قوارب الصيد المتهالكة، بل ناموا على الشاطئ لحماية تلكالمساحة الضيقة من الرمال والثروة التي لا توصف التي يمكن أنتحتويها هذه البقعة من الأرض.
ومنذ أواخر شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، أسفر بحثهم عن مئاتالقطع من المجوهرات الذهبية والفضية والحلي والشذراتالذهبية، التي جرفتها المياه إلى شواطئهم، مما قدَّم للقرويينفرصة مُذهلة وعجيبة – وإن كانت لم تدم طويلاً – لأخذ راحةمؤقتة من آلام الانهيار الاقتصادي الذي لا نهاية له على ما يبدو فيفنزويلا.
وقال العشرات من القرويين إنهم عثروا على قطعة ثمينة واحدةعلى الأقلّ، عادةً ما تكون خاتماً من الذهب، مع تقارير غير مؤكدةتفيد بأنّ البعض باع ما عثر عليه نظير مبلغ يصل إلى 1.500 دولار. وبالنسبة لكثيرين هنا، كانت المكافأة غير المتوقعة رسالةأمل. يقول سيرو كويجادا، عامل مصنع أسماك محلي وجد خاتماًذهبياً: «هذه مشيئة الله الذي يُسيِّر الأمور كيفما يشاء».
ويلفت المراسلان إلى أنه لا أحد يعرف من أين جاء الذهب وكيفانتهى به المطاف متناثراً على طول بضع مئات من الأقدام منشاطئ العمل الضيق في قرية جواكا. واندمج اللغز مع الفولكلورالشعبي للقرية، وعوَّلت التفسيرات بقدرٍ متساوٍ على أساطيرقراصنة الكاريبي، وعلى التقاليد المسيحية، وعلى انعدام الثقةعلى نطاق واسع في حكومة فنزويلا الاستبدادية.
جواكا… أرض الأساطير
يقدّم كاتبا التحقيق وصفاً للقرية قائلَيْن: يتخلل الساحل المتعرّجحول جواكا، في شبه جزيرة باريا في فنزويلا، الخلجان والجزر التيلطالما وفَّرت ملاذاً للمغامرين. وعلى شبه جزيرة باريا، وبالتحديدفي عام 1498، أصبح كريستوفر كولومبوس أول أوروبي تطأ قدمهقارة أميركا الجنوبية، معتقداً أنه وجد المدخل إلى جنة عدن.
وفي وقت لاحق، تعرَّض هذا الخط الساحلي، الذي لا يحظى بدفاعيُذكر، لهجوم منتظم من جانب القراصنة الهولنديين والفرنسيين. ويُعدّ اليوم ملاذاً لمهرّبي المخدرات والوقود وقراصنة العصرالحديث الذين يهاجمون الصيادين ويَسْطون عليهم.
ويطرح كاتبا التحقيق أسئلةً حول الكنز المُكتشَف: هل حطَّمتعاصفة صندوق كنز للقراصنة؟ أم فتحت فرقاطة استعماريةغارقة؟ أم هل جاءت المكافأة من مهرّبين حديثين كانوا متجّهينصوب دولة ترينيداد المجاورة (جمهورية ترينيداد وتوباغو تقع فيجنوب البحر الكاريبي على بعد 11 كيلومتراً من فنزويلا)؟ وظلتجواكا تحفل بالتكهّنات حول الأمر على مدى أسابيع.
أما معارضو الحكومة فقالوا إنّ المسؤولين ربما نثروا الذهب علىالشاطئ لتهدئة احتجاجات السكان المحليين على الظروفالمعيشية المروِّعة. وأعرب آخرون عن قلقهم من أن ترسلالحكومة جنوداً لمصادرة الكنز الذي عثروا عليه. وفي الوقت الذيوصف فيه بعض القرويين الذهب بأنه نعمة، رأى آخرون أنه لعنةستقضي على أيّ شخص يلمسه.
وبمجرد نشر الصورة الأولى للاكتشاف على موقع التواصلالاجتماعي «فيسبوك»، انتشر الخبر في جميع أنحاء فنزويلا. لكنبُعْد المنطقة والنقص الشديد في البنزين والحجر الصحيالمفروض بسبب فيروس كورونا المُستجدّ حال دون حدوث تدافعمن جميع أنحاء البلاد نحو الذهب.
هل الكنز المكتشف ذهب حقيقي؟
أشار اختبار كيميائي أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركيةعلى حلقة من سلسلة ذهبية اكتُشفت على شاطئ جواكا، إلى أنّالقطعة من المحتمل أن تكون صُنعت في أوروبا في العقودالأخيرة.
وأظهر الاختبار أنّ السلسلة مصنوعة من ذهب عالي الجودة عيار18 قيراطاً غير شائع في إنتاج المجوهرات المحلية في فنزويلا. وقال الدكتور جاي ديمورتييه، أخصائي توثيق المجوهرات ومقرّهبلجيكا، كان من الصعب إنتاج السبيكة في ظروف ما قبل العصرالحديث. وفحص كريس كورتي، الخبير الفني في صناعةالمجوهرات في بريطانيا، صوراً لعديد من الأشياء المكتشفة فيجواكا، وقال إنه يبدو أنها صنعت تجارياً في منتصف القرنالعشرين. لكنه حذر من أنّ هناك حاجة إلى إجراء مزيد منالتحليل لتحديد تاريخ القطع ومعرفة أصلها على وجه التحديد.
وربما لا يكون معروفاً مصدر كنز جواكا مطلقاً، خاصة وأنّ القرويينباعوا على الفور الأشياء التي اكتشفوها لشراء الطعام. وفي هذاالصدد، قال هيرنان فرونتادو، وهو صياد ووالد زوج لاريس، اضطرإلى التوسل إلى الجيران للحصول على الكسافا، وهو أرخص غذاءمحلي لإطعام أسرته قبل العثور على عدة قطع من مجوهراتذهبية، إنّ «ما نحصل عليه يذهب مباشرة لإطعام الأفواه(الجائعة)». وباع السيد فرونتادو ما اكتشفه في كاروبانو، أقربمدينة إلى قريته، بأقلّ مما يعتقد أنها تستحقه وذلك لشراء الأرزوالدقيق والمكرونة.
جواكا المُزدهرة تحتضر
أشار مراسلا الصحيفة إلى أنه قبل أن تبدأ الأزمة الاقتصادية فيفنزويلا في عام 2014، كانت جواكا والقرى المحيطة بها تزوِّدأميركا اللاتينية بسمك السردين والتونة المُعلَّبة. واليوم، تعملثمانية مستودعات فقط من أصل 30 مستودعاً بدائيّاً للسردين فيالمنطقة. وتعرَّضت مصانع تعليب التونة المجاورة، التي تديرهاالحكومة، للإفلاس. كما أدَّى النقص الحاد في الوقود هذا العام إلىتحوّل الكساد والانكماش الاقتصادي إلى معركة يومية من أجلالبقاء بالنسبة لعديد من القرويين.
وللحصول على أيّ بنزين لقواربهم، يتعيّن على القرويين بيعنصف حصيلة صيدهم من السردين للحكومة بسعر محدّد يعادل1.5 سنت فقط للرطل. وفي هذا الصدد، يقول خوسيه كامبوس،وهو صياد لسمك السردين، إن «الحكومة لا تهتمّ بنا علىالإطلاق». وتابع: «ونستمر في إعطائهم السمك، ولا نحصل علىشيء في المقابل».
ويضيف المراسلان أن الوقود أصبح شحيحاً هذا العام لدرجة أنعديداً من الصيادين اضطروا إلى التجديف في عرض البحر، أوالبقاء في قواربهم الصغيرة المكشوفة لعدة أيام للحفاظ علىالبنزين وتحدي العواصف والعطش والقراصنة.
يقول السيد لاريس، الذي كان أول من اكتشف الذهب، إن: «الأمرأصبح سيئاً للغاية، وشعرتُ وكأن حبلاً شُدَّ حول رقبتي».
الذهب يغيّر حياة لاريس
يذكر الكاتبان أنّ لاريس جنى 125 دولاراً من الأشياء التي عثر عليها– ويُعدّ هذا أكبر مبلغ حصل عليه دفعة واحدة. واستخدم السيدلاريس المال لشراء المواد الغذائية بكميات كبيرة. كما أنه اشترىبعض الخبز الحلو لأطفاله – وهي أول مكافأة يتلقاها أطفاله علىهذا النحو منذ سنوات. وأصلح جهاز تلفاز مكسور، واشترى مكبرصوت مستعملاً، مما وفَّر لعائلته بعض الترفيه في منزلهم ذيالأرضية الترابية الذي لا يحتوي على أيّ أعمال سباكة داخلية،حيث يتشارك ستة أشخاص سريراً واحداً تحت سقف تتسرّب منهمياه الأمطار لتقع على رؤوسهم.
وقد أتاح الكنز لأسرة لاريس العودة لتناول الطعام مرتين فياليوم. وزاد وزن طفلته الصغرى، تايري لاريس، البالغة من العمرعامين، في الشهر الماضي، على الرغم من أنها ما تزال تعاني منسوء التغذية. وأصبح التلفاز يعمل الآن في جميع الأوقات، وتنمّصورته المشوشة عن أمة سعيدة ومزدهرة، خاصة أنّ القنواتالوحيدة المتاحة في جواكا هي القنوات الحكومية في فنزويلا.
جواكا تنتعش من جديد
ويشير التحقيق إلى أنّ وضع القرية تغيّر منذ اكتشاف الذهب. وعاد السردين إلى شواطئ جواكا بعد غياب دام أربعة أشهر،وتحسّنت إمدادات البنزين على نحو طفيف.
وفي كلّ صباح، تنفجر القرية في نشاط محموم عندما تصل قواربالسردين محمَّلة بصيدها، الأمر الذي يجذب معه مئات الأشخاصإلى الشريط الساحلي. ومن ثم ينتظم السكان في مجموعاتصغيرة ويشرعون في تفريغ الصيد وتنظيفه وتقطيعه وتعبئته فيصمت منسق. أما الأصوات الوحيدة المصاحبة لعملهم المنهجيفتتمثل في الدق على سكاكين التقطيع وصرخات طيور النورسالمحيطة بهم. ويتوقف سكان القرية الأكثر ضعفاً إلى جوارهمللحصول على حصصهم اليومية من الأسماك مجاناً.
هل يعاود الذهب الظهور من جديد؟
وعاد السيد لاريس إلى ممارسة نظامه المعتاد، لكنه ما يزاليحتفظ بزوج من الأقراط الذهبية البسيطة المُزينة بنجمة. وعلىالرغم من الحاجة المُلحِّة لبيعها، إلا أنه لا يريد التخلي عنها لأنهاتذكِّره بالملاحين القدامى الذين عبروا البحر الكاريبي مسترشدينبالنجوم. وحول هذا الأمر، قال لاريس: «إنه الشيء الجميلالوحيد الذي أملكه».
ويختتم المراسلان تحقيقهما مؤكدَيْن أن الكنز لم يغيّر حياة السيدلاريس، لكنه ذكَّره بأنّ الأشياء الجيدة يمكن أن تحدث حتى وسطالمصاعب. وبعد أشهر من الاكتشاف الأول، لا يزال سكان جواكايجدون من حين لآخر قطعاً ذهبية صغيرة في الرمال. وعند غروبالشمس، عندما يهدأ الشاطئ، يمكن رؤية عدد قليل من السكانجالسين بجانب الأمواج، يمرّرون أيديهم عبر الرمال في الضوءالباهت.
ويُمنِّي السيد لاريس نفسه قائلاً: «إذا حدث ذلك مرة، فسيحدثمرةً أخرى».
أكمل القراءة »