عماد مرمل - خاص الأفضل نيوز
يكاد يكون من الطبيعي، وفق مقتضيات التقاليد اللبنانية، أن تمر عملية تشكيل الحكومة الجديدة في مد وجزر قبل أن تستقر على بر الأمان، كما تدل التجارب السابقة، إنما مع تسجيل فارقين هذه المرة، الأول هو أن البلد المنهك لا يتحمل الإفراط في استهلاك الوقت على التفاوض حول الحصص والأحجام، والثاني هو أن الرئيس المكلف لا ينتمي مباشرة إلى النادي السياسي اللبناني "النمطي" بحكم خصوصية تجربته، من سفير سابق للبنان لدى الأمم المتحدة إلى رئاسته لمحكمة العدل الدولية، أي أنه لم يكن جزءًا عضويًّا من اللعبة الداخلية وزواريبها.
وانتقال القاضي نواف سلام إلى رئاسة الحكومة في لبنان من رئاسة محكمة العدل الدولية في لاهاي، لم يكن فقط انتقالًا من هولندا الهادئة إلى الوطن الأم، ولكنه كان قبل كل شي انتقالًا من عالم إلى آخر.
وبهذا المعنى فإن المسافة بين لاهاي وبيروت ليست بالنسبة إلى سلام جغرافية فقط، بل هي بالدرجة الأولى مسافة مليئة بالمفارقات والفوارق بين تحديين مختلفين تمامًا ودورين مغايرين.
وإذا كانت محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة المختص بالفصل في النزاعات بين الدول، فإن نواف سلام سيكتشف من موقع رئاسة الحكومة أن الفصل في النزاعات بين المكونات اللبنانية أشد صعوبة وتعقيدًا.
هناك، كان "عالم" نواف سلام كناية عن محكمة عدل وزملاء قضاة وانتظام مؤسساتي ومعايير موحدة وأحكام مبرمة.
وهنا، شبح دولة يسبح خارج جاذبية القانون والمؤسسات وسط الانقسامات والفوضى المحاصصات والنكايات واللاعدالة.
هناك، كان سلام يستند في مهمته إلى "النص"، أما هنا ف"النصب" هو الغالب، والدستور ليس سوى زينة تندرج في إطار الأكسسوارات السياسية التي يتطلبها الديكور الرسمي لهيكل الدولة.
وبناء عليه، فالأرجح أن سلام سيشعر للوهلة الأولى بـ"الغربة" السياسية في لبنان، وسيحتاج إلى بعض الوقت حتى يفهم على الآخربن ويفهمون عليه، وصولًا إلى إمكان إيجاد لغة مشتركة، من دون حاجة إلى قاموس للترجمة.
وإلى حين أن تكتمل عملية التكيف المتبادل، سيكون سلام أمام اختبار صعب: هل سينجح في تشكيل الحكومة وفق معاييره أم سيضطر إلى التنازل عن بعضها لتسهيل الولادة، وبالتالي هل ستتمكن الطبقة السياسية من "تطويعه" مع مرور الأيام أم سيتمكن هو من استقطابها نحو نمط سلوكه؟
بالأمس، أكد سلام أنه ليس "ليبان بوست" في عملية تشكيل الحكومة، أي أنه ليس مجرد صندوق بريد يتلقى طلبات التوزير من الكتل النيابية ويلبيها على نحو تلقائي. ولكنه أشار في الوقت نفسه إلى حاجة حكومته إلى اكتساب ثقة النواب حتى تعبر بسلام "الممر الإلزامي" في المجلس.
من هنا، لا يستطيع سلام أن يتجاهل ضرورة "إرضاء" الكتل لكي يربح ثقتها، ولا يستطيع أيضًا الرضوخ لكل ما تطلبه لكي لا يخسر نفسه.
إنها المعادلة الصعبة التي تتطلب من الرئيس المكلف التعاطي بواقعية مع التوازنات اللبنانية وتعقيداتها، من دون أن يستسلم في الوقت نفسه للأمر الواقع ويتماهى معه.
ولعل الزخم الذي أتى بسلام إلى السرايا الحكومية، كما أتى بالعماد جوزاف عون إلى القصر الجمهوري، قد يسهل عليه تذليل العقبات أمام مهمته، وهذا ما ستكشف صحته من عدمها الأيام المقبلة.